سمعتُ كغيري بتيريز هلسة، الفدائية، التي ظهر اسمها مطلع السبعينيات، مناضلة من الكرك أصلاً، صارت في الأسر الإسرائيلي. قبل نحو خمسة عشر عاما، جاءني صديق مخرج تلفزيوني، يتحدث عن لقائه معها. عن دورها الجديد في مساعدة جرحى وقدامى الفدائيين.
كان هناك مبنى في جبل الحسين في عمّان، زرته مراتٍ قليلة في العام 1990، كُنّا نؤسس فرقة دبكة، وكان فيه مسرح، نسيتُ اسم الفرقة، ولكني أذكر الأغنية التي كنا نُدرب الشباب عليها: «في الفاتح من الـ65 انطلقت أعظم ثورة.. ثورة شعب فلسطين»، كنتُ «مدير» الفرقة، وكان المُغني شابا وسيما، سيصبح محاميا دوليا شهيرا لاحقاً، والمغنية فتاة سمراء، تُدخن سجائرها، ولا أعرف ماذا حل بها، ولم تؤد الفرقة أي حفلة. لاحقاً تخيلتُ تيريز تدخل وتخرج من المبنى وتبحث عمّن يساعد الفدائيين القدامى، فقد التقاها المخرج، قريباً من هناك.
أخبرتني صحافية، شابة، عن مقابلتها مع تيريز، وفي الحالتين؛ المخرج الشاب والصحافية، كانا يجدان صعوبة باستمرار الحياة الطبيعية، بعد أن قابلا تيريز؛ أنه يمكن أن يكون هناك إنسان بهذا الرُقي.
وأنا أقرر التوقف عن الكتابة المنتظمة، اتصل بي أبو علاء، غاضباً. أبو علاء الذي كانت المخابرات الإسرائيلية تُستفز كلما ذكر اسمه أواسط السبعينيات؛ يسمونه «الأستاذ» بحكم أنّه أستاذ في ثانوية للبنات في رام الله، للرياضيات. وقام بعملية شهيرة، عملية شارع ركب/ بنك ليئومي، وأفلت من مطاردتهم بهربٍ عبر النهر، ظل غامضاً لهم لسنوات طويلة، اسمه يضيء «لمبة حمراء» كما قال ضابط مخابرات إسرائيلي لاحقا.
قبل نحو سبعة أشهر من اليوم، اتصل بي يقول إنّه يجب أن أقابل صديقه العراقي الكلداني. كنتُ في عمّان، وكانا في عمّان، كان صديقه قد دخل «فتح» في العراق بداية السبعينيات، ومن بين أمور أخرى كان هذا الصديق الذي لا يريد ذكر اسمه، وقد أصبح أستاذ مدرسة في العراق، ينشر الأخبار عن فلسطين، ولولا رفض الفدائيين، أكثر من مرة، كان يريد إرسال راتبه كمعلم لهم ليقاتلوا، أرسله مرتين وأعادوه مرتين. عندما اتصل أبو علاء، كان غاضباً ممن ينسون تضحيات العرب.
قبل أن نفطر معا، على ناصية في جبل الحسين، كعادته أبو علاء، لا يمكن أن يمر عن فدائي سابق، إلا توقف للتحية، فدخلنا شقة لشركة، فيها تيريز، وأبو العز، فدائي آخر قديم. كانا يجتهدان، يصرخان لتوفير حاجات عائلات فدائيين، وفدائيين سابقين، ملابس، أدوية، أغطية أسرّة، …إلخ. أبو العز، باع «ذهبات» أمه، وتيريز تبحث في كل مكان. والكلداني بكى، وأخرج دولارات، لم يرفضها أحد هذه المرة.
روى أبو علاء قصتها، أمس، كما يلي «قالت لي المرحومة تيريز: شَحنت نهاية الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي الشباب بطاقة ثورية. (…) ماذا تفعل فتاة في السابعة عشرة من عمرها -أنا- تتحرق للالتحاق بالفدائيين؟ كنت أدرس التمريض في مدرسة بمدينة الناصرة. التقيت الصديقة ريما طنوس وهي من جيلي، وعادل، شاب من جيلنا. اتفقنا على الهرب إلى لبنان. أحضرنا خريطة فلسطين وتعرفنا على الحدود. تتبعنا الحدود. في بلدة مرج عيون كُنا مُرهقين فلجأنا إلى فندق صغير. شَكّ صاحبه بأمرنا، وسألنا: معكم نقود؟
انتزعت خاتمي من يدي وناولته إياه، ازداد ريبةً! دخل للداخل وفجأة خرج صبي وصاح فينا «اهربوا اتصل بالدرك». هربنا. وعلى الشارع أوقفنا سيارة، ومن حسن حظنا أنها كانت تقل فدائيين من فتح. شرحنا وضعنا فأخذونا إلى قاعدة للفدائيين للتحقيق. واجهتني مشكلة: اسمي تيريز واسم والدي اسحق، شكوا أني يهودية، وجاسوسة إسرائيلية».
بعد التأكد من سلامتهم الأمنية، كلفوا بعد أشهر بعملية بهدف الإفراج عن الفدائيين الأسرى في سجون الاحتلال. في تلك العملية استشهد فدائيان، علي طه وعبد الرؤوف الأطرش، وأصيبت هي وريما بجراح وأفرج عنهما في تبادل للأسرى عام 1983.
تيريز، التي رحلت هذا الأسبوع، كانت قبل كل شيء روحا وإنسانا جميلين، كجمال خفقة قدم شاب يرتدي كوفية في فرقة دبكة، وخفقة قلب فتاة تحب الوطن وما فيه من أرض، وسماء، وماء، وناس، والعدالة والحرية والإنسان. ككلداني في الثورة؛ ثورة جمعت يوماً جمال البشر.