مفتي اسطنبول والحساسية الجديدة

في الوقت الذي بدأت فيه الطائرات التركية الحرب على شمال العراق بالتزامن مع هجوم بري كبير وحركة دبلوماسية واسعة تقودها تركيا لفرض عقوبات اقتصادية على الإقليم الكردي والدول التي تسانده؛ فإنّ هنالك حراكا تركيا من نوع آخر، وعلى مستويات متعددة، يشير الى نمط من الحساسية السياسية والحضارية الجديدة، التي يمكننا ان نفهم منها بأن هذه الدولة الإقليمية الكبيرة في المنطقة أخذت بالتململ من حالة المهادنة مع الجميع في بيئة مملوءة بالصراعات والحروب والفرص والتهديدات.

اضافة اعلان

في الأسبوع الماضي صرح مفتي اسطنبول، الدكتور مصطفى شاغريجي، ان العرب المعاصرين لم يتوصلوا الى المعنى الحقيقي للإسلام. فالمعنى الحقيقي للجهاد هو الإسراع بوتيرة التقدم؛ بمعنى جهاد العقل والمعرفة والإيمان، وبحسب رأيه فإن العرب سيصلون الى هذا الفهم خلال الخمسين عاما القادمة، وهو لا يدعو الى نسخ النموذج الإسلامي التركي، بل يدعو الى تعميق الحوار بينهما، فالأتراك حسموا مسألة الآخر والعدو منذ ثلاثة قرون حيث يوجد في تركيا اليوم أكثر من 80 ألف مسجد و40 ألف امرأة مفتية، وأكثر القضايا التي يسأل فيها الأتراك رجال الدين: متى سينزل المطر؟    

لقد حسمت تركيا المعاصرة طوال عقود متتالية وحتى الستينيات المسألة الحضارية وفق ما رأته النظم السياسية المتتالية في اتباع خطى الاتاتوركية، وهو الحسم الذي اتجه بشكل تام نحو الغرب وحسم الصراع لصالح العالم الأوروبي والغرب، بصورة لم تشهدها فترة تاريخية سابقة لدولة شرقية تحمل تأصيلاً تاريخياً واجتماعياً في حدود جغرافيا المنطقـة، ما جعلها القاعدة المتقدمة لتحقيق مصالح الغرب في العالم انطلاقاً من الشرق الأوسط.

لكن منذ منتصف الستينيات استيقظ الأتراك على وهم الحسم المصيري المطلق لخيارهم الحضاري على مشاعر الخيبة بحلفائهم ومشاعر المهانة القومية التي لحقت بهم، حينما وضع العقل السياسي التركي حجم المصالح التي يحققها الغرب على حسابه وفق تركيبة النظام الدولي آنذاك، مقابل ضآلة الفائدة وتدني القيمة التي تجنيها تركيا. كما أتضح جلياً في الموقف الغربي من الصراع التركي- اليوناني حول جزيرة قبرص ومساندة الغرب لليونان على الرغم من تفوق الوزن الاستراتيجي لتركيا على اليونان في نطاق الجناح الجنوبي الشرقي للحلف الأطلسي؛ هذه المعطيات كانت مؤشرات واضحة نحو استيقاظ عقل المجتمع الذي سوف يلعب دوراً جديداً في إعادة صياغة عقل الدولة.

المعطيات الجبوستراتيجية تمنح تركيا التميز الدولي مما ينعكس مباشرة على المنطقة ويجعلها من أخطر دول العالم استراتيجياً بموقعها المتميز بين أربعة بحار (المتوسط ومرمرة والأسود وقزوين) وسيطرتها على المفصل الصعب للمواصلات البحرية (البسفور والدردنيل) والبرية والجوية بين آسيا وأوروبا، إلى جانب ثقلها الديموغرافي الذي يصل إلى ما يقارب 80 مليون نسمة، وجيش هو أحد أقوى الجيوش الإقليمية، علاوة على ثروات هائلـة أهمها الثروات المائيـة.

هذه الحقائق تجعل مراقبة التحولات التركية والحساسيات السياسية على درجة كبيرة من الأهمية، إذا ما أضيف إليها البعد الاستراتيجي الحضاري لموقع هذه التحولات في العالم الإسلامي ودور تركيا القادم في ترتيبات قد تطال المنطقة بأكملها، ما يفسر هجوما جويا بريا بمشاركة مائة ألف جندي من اجل 500 مقاتل في جبال كردستان.

الحساسية التركية الجديدة تعني من زاوية أخرى - ربما هي الأهم- أن الدولة التركية تتأهل لدور كبير منتظر على الصعيد الدولي والإقليمي، تبدو ملامحه في الالتقاء تارة والتقاطع تارة أخرى مع أفكار ومشاريع غربية وإقليمية طالماً استبقت نقاشاً ولم تر النور.

لقد مارس حزب العدالة والتنمية خلال وجوده في السلطة سياسة خارجية إقليمية ودولية تتحمل الكثير من التوازن والانضباط، ويكفى لاختبار ذلك أن نراجع مواقف تركيا من حرب احتلال العراق وما بعدها ودعمها المستمر لجهود التسوية السياسية بين العرب والإسرائيليين، وقدرتها على المرور عبر الممرات الضيقة والحرجة في العلاقات الإقليمية؛ كما يبدو ذلك في علاقاتها مع إسرائيل وسورية وحصاد حزب العدالة والتنمية لشعبية ونفوذ وسط النخب وقادة الرأي والجماهير العربية.

[email protected]