"مليح" قرية انسلت من ماء سيل الوالة

"مليح" قرية انسلت من ماء سيل الوالة
"مليح" قرية انسلت من ماء سيل الوالة

سيرة مكان

سليمان قبيلات

عمان- نسجت "مليح" عبر ستين عاما من عمرِ عطشها صورة ايقونية لنبع ماء منحه الناس اسم قريتهم فاستقر في وجدانهم الجمعي شخصية فذّة سخيّة حتى احتشدت ذاكرتهم بما يشبه التقديس لـ"نزازة" انبلجت ماء في خاصرة قريتهم الشمالية ذات حصاد لاهب من عشرينيات القرن الآفل.

اضافة اعلان

ولأن لها عندهم صورة أيقونية مكثفة زاخرة بالدلالات التي تنطوي على عالم من احلام استثار "البير" في دواخل العطشى ميولاً ارتبطت بمتخيل لمتغير قادم هم لم يعرفوا كنهه وان حدسوا آفاقه. فما أن يغادر الشتاء حتى يبدأ الناس رحيلاً مع مواشيهم نحو المرابع في جهات القرية الأربع، تاركين منازل الطين للاستقرار في بيوت الشعر بسهول ومرتفعات تلبس الاخضر. كان الناس ممتلئين بالحميمية الزاخرة والمشاعر الفياضة، يتكافلون في الفرح والترح، كانوا بسطاء لكنهم أكثر عمقاً من شخصياتنا المركبة، لم يكونوا هامشيين بل أكثر منّا حضورا في الحدث والمشهد.

وبوصفها مكاناً هاجساً ذهنياً وفضاء لاشتباك معقد من الأنثربولوجيا والهوية والوعي الجمعي انتفى الزمن في مليح أصلا وأصبح محملاً بدلالات وموجودات ذهنية متجسدة فعليا.

اليوم استبطن الذاكرة فأجدها متماهية مع قريتي الأثيرة للنفس غير السردية في تجليها وعيانيتها. هذه القرية التي رآها صديق ذات صباح قريب وكأنها للتوّ انسلت من ماء جارها سيل الوالة، مغتسلةً عن آثار تعب طارئ، هي ما تزال روحاً وثابةً برغم احتشائها بحداثة قاهرة وزيف يملأ فضاءات لم تعد كتلك التي كانتها مليح القديمة.

في المخيال تتمظهر مليح مكاناً أصيلاً صاغ علاقات الناس وأسبغ هويته على القادمين الجدد، لتكون القرية حاضنةً للأفكار والعلاقات وتشكلها.

اليوم قريتي تهاب الزمن خشية اغتراب وضياع يتهددانها، ويثقلان كاهلها بمشاعر الذنب. مليح تخشى التحطم وفقدان الأمل بحدوث تغيير.

هناك وصل عضوي بين براءة مليح المكان وخصوصيتها وهي التي تشكلت على تخوم الصحراء لتجاورها جوار المحب العنيد. هناك زيف وجدت القرية ذاتها محاطة بهيلمانه، زيف يتهدد تمردها محاولا صياغتها من جديد لتغدو مستكينة لقدر بيرها المهجور الا من قطعان ماشية تلوذ بأحواض ماء اعشوشبت جنباتها لطول غياب الماء.

مليح تمقت ساعة يصطف منتظرو المعونة على بوابة مكتب بريدها متسائلة: أهؤلاء هم مني؟! ما الذي دفعهم الى هذا؟! من أطاح بإنسانية أهلي؟! أهي العولمة والخصخصة والهيكلة والانصياع لسياسة الصناديق الدولية في نهبها لبلادنا؟! مليح تمقت شباباً يتسكعون دلعاً وغنجاً وقد أرخوا ذؤاباتهم، هي لا تعرف بم يتولهون. تمقت هذا الضياع لإنسانها المأسور للحاجة والفاقة ومغادرته منذ الصباح الباكر ليعود آخر النهار محملاً بزوادة يتوهم أنها تقي من جوع.

مليح تمقت ضنكاً أحالها شخصيةً مختلفةً مستلبةً ومنهكةً في بحث مضن عن ضرورات البقاء. يقول المكان: لم أعد أنا والقادم أعظم . وباستنكار يحتمل خوفا من قادم الايام يتساءل المكان: أين هم أُناس لم يتداولوا مفردات الازمة في تجلياتها جميعا؟، المعونة: قاتلة الكرامة الانسانية. وظيفة: لا تعني عملاً منتجاً الا ما يقيم نزراً يسيرا من الأود. تهافت القيم تحت سوط الحاجة. انتخاب "المقتدر" لاقتداره المالي ونفاقه.

هناك في مليح كان الحب من دون "غثبرة" وكانت حسناوات الريف يزغردن في الاعراس و"العونة"، في مقدم الشتاء وانتظار الربيع، في الحصاد الذي ذهب ولم يعد.

هناك في مليح شبان يذرعون طرقاتها تحت وهج الشمس بحثاً عن اللاشيء الا الضياع في مطاردته للحياة.

مليح تخشى مصيرا كمثل مصير بيرها. تأنف لحظة تصير فيها مكاناً لا تآلف فيه ولا انتظار دهشة. تخشى فقدان ذاتها بوصفها مكاناً للحياة الجماعية. تخاف تحولها مكاناً أصم لا يخترع حكايات وأساطير ترددها الجدات والأمهات والكبار في أمسياتهم.

قريتي مكان حزين يخاف قدراً يضطره للسؤال. هي اليوم تستحضر المحظور عند عبدالمعطي حجازي: لو أنني، لا قدر الله ، سجنت، ثم عدت جائعا يمنعني من السؤال الكبرياء فلن يرد بعض جوعي واحد من هؤلاء.

.. قريتي تعيش غصة لكنها تزدري "هؤلاء"، فهم سبب شقائها وحزنها واغترابها.