"مليح... ما صار غير شكل"..!

في رواية إميل حبيبي الرائعة "الوقائع الغريبة"، يقول سعيد أبو النحس المتشائل: "وكان أخي البِكر يعمل في ميناء حيفا. فهبّت عاصفة اقتلعت الونش الذي ‏كان يقوده وألقته معه في البحر فوق الصخور، فلمّوه وأعادوه إلينا إرباً إرباً، لا رأس ولا أحشاء. وكان ‏عروساً ابن شهره. فقعدت عروسُه تولول وتندُب حظها. وقعدت والدتي تبكي معها صمتا. ثمّ إذا بوالدتي ‏تستشيط وتضرب كفا بكف وتبح قائلة: (مليح أن صار هكذا وما صار غير شكل)! فما ذهل أحد سوى ‏العروس، التي لم تكن من العائلة فلا تعي الحكم. ففقدت رشدها، وأخذت تعول في وجه والدتي: أيّ غير شكل ‏يا عجوز النحس (هذا اسم والدي، رحمه الله): أيّ شكل بعد هذا الشكل يمكن أن يكون أسوأ منه"؟! يلخص هذا المشهد ببلاغة ما يحدث لمنطقتنا في العالم سنة بعد أخرى منذ زمن، ولم تكن السنة المنقضية استثناء. وعندما يريد أحد أن يستجلب أي قدر من التفاؤل نادر الأسباب في هذه البقعة المنهكة من العالم، فإنّه قد يقول بالضبط ما قالته عجوز النحس: "مليح أن صار هكذا وما صار غير شكل". ولكن، حقا، "أي شكل بعد هذا الشكل يمكن أن يكون أسوأ منه"؟! في العام الذاهب، استمرت الحروب والأزمات والاستبداد وموت الأبرياء في كل بقاع العالم العربي. ما يزال العراق يعاني منذ بداية الحرب العراقية-الإيرانية المشؤومة وحتى تفجيرات الإرهابيين المستمرة. وليبيا واليمن وسورية دخلت نفقا مظلما قبل أكثر من ثماني سنوات ولم تخرج منه. وتونس، أم "الربيع العربي" تحيي ذكرى المناسبة بالاحتجاجات على الأوضاع القاسية التي دفعت الناس إلى الانتفاض في المقام الأول. واليمن يباب. والفلسطينيون يعيشون أسوأ وضع لهم منذ بداية نكبتهم، والأوضاع مرشحة للمزيد من البؤس. والمستبدون ما يزالون يستبدون في الأماكن التي أصبحت تخاف من الثورة والمغامرة بطلب التغيير. وهنا، في بلدنا، تعمقت الأزمة الاقتصادية والمعاناة الشعبية فحسب في العام الماضي. لم تذهب البطالة وارتفعت كلفة العيش على المواطنين، بلا طريق واضح المعالم إلى الخروج من "عنق الزجاجة" أو النفق كثير التفرعات الذي بلا أضواء ولا شواخص. ومع ذلك، يبحث الناس عن بصيص أمل بتفقد المفاهيم، مع قصقصة كثير من متعلقاتها: مثلاً، نعمة الأمن من دون الجزء المتعلق بالأمن الاجتماعي-الاقتصادي الذي هو جوهر كل أمن. ويتبعه القول المعزّي الذي ربما يختص به العرب دون غيرهم من الأمم: "مليح أن صار هكذا وما صار غير شكل"! ربما نكون الوحيدين الذين يحتفون بالخسارة في العالم، باعتبار أنها ليست ثقيلة جداً. على سبيل المثال، كان خبر قديم في صحيفة عربية نسيت اسمها، يحتفل بأن تلك الدولة انهزمت بواقع ستة مقابل صفر فقط أمام منتخب من أميركا اللاتينية. وفي كأس العالم الأخير، خسرت المنتخبات العربية "خسارات مشرفة"! هنا فقط توصف الخسارة والهزيمة بأنها "مشرفة" –ومنها هزائم حرب النكبة وحرب النكسة وهلم جراً –كل ذلك على طريقة "مليح... ما صار غير شكل"! للأسف، هذا الـ"غير شكل" مرشح –حسب الوجهات- لأن يصير، عاما بعد عام. في يوم، يكون الناس فقراء ويحمدون الله على عدم حدوث الأسوأ، وفي أيام تالية يصبحون أفقر وآفاقهم أضيق، ويتسلون بعدم حدوث الأسوأ، ثم تأتي الحرب والموت والتشرد وانغلاق الآفاق وخراب الأوطان. أي شيء يمكن أن يكون أسوأ؟ ربما يكون هذا التعبير عن التفاؤل المختلق هو أسوأ إرث سكن ثقافتنا وعاطفتنا ونفسيتنا الجمعية. ليس ما هو أسوأ من عدم تسمية الأشياء بأسمائها والاعتراف بحقيقتها. لا يمكن –منطقياً- الاستنجاد بالثنائيات المتعارضة، "هزيمة مشرفة"، لتزويد الذات المهزومة بطاقة كاذبة، مثل عمل المنشطات أو المخدرات. ولا بُدّ أن يبدأ أي عمل لتغيير الواقع بالاعتراف بالواقع حتى تتسنى فرصة التفكير العاقل في سبل تغييره. ربما يأمل المرء في أن يكون تقطيع جسد هذه الأمة إرباً إرباً، مثل صاحب الونش أعلاه، هو أسوأ شيء يمكن أن يحدُث لنا –وقد حدث. وأن لا يأتي "شكل بعد هذا الشكل يمكن أن يكون أسوأ منه". لعلهم لم يتركوا لنا سوى أن نأمل هكذا فقط، مثل "عجوز النحس".اضافة اعلان