منافسة مؤسسات الدولة

تابع الجمهور الأردني باهتمام بالغ، خلال الأسبوع الماضي، الآراء المتعددة التي تمحورت حول التنبؤ بالحالة الجوية تحت تأثير حالة عدم الاستقرار، والتي وصلت حد المساجلات الحادة أحيانا. وتمثلت أطراف هذه المساجلات في دائرة الأرصاد الجوية، وشركة "طقس العرب"، وعدد من المهتمين وأصحاب الخبرة والمعرفة المتفاوتة من جمهور الهواة، وميدانها الإعلام القديم والحديث. اضافة اعلان
لسنا هنا في وارد الحكم على أداء كل طرف من هذه الأطراف، فكل من تابع الحوارات تشكل لديه حكم ما حول ما سمعه وما قرأه، مقارنة بما رآه عيانا خلال الأسبوع الحالي، أو وصل إليه بالوصف والصورة. ولكنني أرصد في ما جرى مثالا صارخا لحقيقة أشمل يندرج تحتها هذا الحراك، لأضعها في سياقها الأشمل موضوعا ومساحة. فالقضية ذات طابع عالمي؛ تتمثل في ازدياد منافسة الحكومات والأجهزة الرسمية من قبل قطاع الأعمال والمؤسسات المختلفة والجمهور بشكل عام، في الوصول إلى المعلومة وتحليلها، وبالتالي نشرها أو الاستفادة منها.
لقد بات امتلاك جهات غير حكومية القدرة على الحصول على كم كبير من البيانات الاقتصادية والديموغرافية والمناخية وغيرها، يشكل تحديا لأجهزة ومؤسسات متخصصة متعددة في الدولة. وتنامت الجهات -أغلبها شركات ربحية- التي تمتلك القدرة على نمذجة وتحليل البيانات ونشرها، مما شكل منافسة للدور التقليدي للدولة. وربما يعتبر مجال الطقس والتنبؤات الجوية من أظهره، فطالما كان هذا المجال حكرا على الدولة، والآن نجد الجهات الرسمية المتخصصة تحصل على الكثير من البيانات والخرائط الجوية، ونماذج وأنظمة التحليل من شركات عالمية، ومن خلال اشتراكات تدفعها الحكومات لتلك الشركات، شأنها شأن القطاع الخاص. وقبل ذلك رأينا الإعلام ينتقل إلى سيطرة الشركات الكبرى، ورأينا تكيفا متفاوتا من الدول مع هذه الهيمنة. ثم رأينا الإعلام بعد ذلك يتحول إلى شكل جديد من خلال ثورة الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، ورأينا الدولة الحديثة تلهث للحصول على دور لها في ظل هذا الإعلام الجديد.
هذه الظاهرة التي لا تتوقف عند مجال من المجالات، باتت تلح على الحكومات لإيجاد صيغة للتعامل مع هذه المنافسة المتصاعدة في ظل الانفجار المعلوماتي، والمنافسة المحتدمة. فهل تكبح جماح منافسيها، أم تسعى إلى تحفزيهم والشراكة معهم والاستفادة منهم؟ هل تغير الحكومات من وظيفتها في بعض المجالات، أم ترفع من مستوى أدائها وتدخل كمنافس للقطاع الخاص في توفير المعلومة وتحليلها ونمذجتها والتنبؤ من خلالها؟ ما هي المجالات المعلوماتية التي تدخل ضمن الأمن الوطني؟ وكيف يمكن صيانة الأمن الوطني عند توفر هذه المعلومات لدى جهات لا تسيطر عليها الدولة، وربما لا تملك أدوات للتأثير عليها؟ ومما يفاقم هذه المشكلة أن حجم المتغير هنا أكبر بكثير من الثابت، والتغيرات تتعدد وتتكاثر كماً وكيفاً، ولا يمكن إصدار حكم واحد عام على القطاعات المختلفة وعلى الدول المختلفة التي تتفاوت إمكاناتها وتتباين مصالحها والتحديات التي تواجهها، ليبقى التحدي الكبير على عاتق أجهزة الدولة بحيث تكون رشيقة مرنة، ومواكبة للتطورات، وهي مطالب أقرب للأمنيات.
لقد أصبح تحديا ماثلا لأجهزة الدولة أن تكون هي المصدر الموثوق والقادر على توفير المعلومة التي تخص كيان الدولة، وسكانها واقتصادها، وما يجري على أرضها، وأن توفر هذه البيانات بالجودة والوقت المتوقعَين من المعنيين، وأن تمتلك القدرة على الدفاع عما تقدمه من بيانات، عند ظهور مصادر أخرى للمعلومات منافسة. 
ولم يعد الأمر مقتصرا على منافسة أو مشاركة الدولة في الحصول على المعلومات المختلفة، بل أصبحت هناك دعوات متزايدة تطالب الحكومات وغيرها بفتح بياناتها للجمهور (Open data). وتلقى هذه الدعوات رواجا واسعا، وتنطلق من فلسفة أن هذه البيانات هي حق للجنس البشري، وبالتالي يجب أن يتاح للإنسانية للاستفادة منها. وتحدي البيانات المفتوحة يمثل سؤالا بات مطروحا على كل حكومة ودولة، يجب أن تجد له جوابا.
تخطئ الدول إذا حاولت أن تتعامل مع هذه التحديات بأسلوب التقييد والاحتكار، أو سياسة الإكثار من التراخيص والتصاريح، فهذه سياسات مضى زمنها. نعم، مطلوب تنظيم ما يحتاج إلى تنظيم من النشاط الإنساني، ولكنه تنظيم تحفيز أكثر منه تقييد. ونموذج كوريا الشمالية لا يمكنه أن يعيش إلا في ظروف تشابه ظروف كوريا الشمالية.