منذ ثلاثة وأربعين عاماً!

في بيت أحد الأقرباء شاهدتُه. كان يجلس قبالتي، بخفوره القرويّ وشعره الأشيب. كان يبدو في مثل سنّي، وكان ينظر إليّ بين فترة وأخرى بنظرات سريعة ومرتبكة. لاحظتُ ارتباكَه، فرُحتُ أسترق النّظر إليه أنا الآخر، وما إن التقت نظراتنا حتى هبّ من مكانه واقفاً، وهتف بما يشبه اليقين: يوسف، أنتَ صديقي الشاعر يوسف، وأضاف أنا عبد الله، أتذكرني؟ قمتُ من مكاني، وعانقته، وانخرطنا طويلاً في نوبة بكاء.

اضافة اعلان

نعم لقد تذكّرته، تذكّرت ذلك الصديق الذي افترقتُ عنه في الطفولة قبل ثلاثة وأربعين عاماً! كانت حرب حزيران (يونيو) العام 1967 قد وقعت، وكنتُ أنا وأفراد أسرتي على أهبةٍ للرّحيل. كانت الشاحنة التي ستقلّنا إلى عمّان في انتظارنا، وكان الجميع منهمكاً بتحميل بعض الأدوات والحاجيّات اللازمة في الشاحنة، فيما انشغلتُ بنقل بعض مقتنياتي من الألعاب، والتي هي عبارة عن عدد من السيارات الصغيرة التي كنت قد صنعتها من الأسلاك. لم أضع تلك الألعاب في الشاحنة وإنّما أعطيتها لعبد الله، ابن صفّي وحارتي الذي كان بجواري، ورجوته أن يحتفظ بها ريثما أرجع إلى البلد.

يا إلهي ما الذي حدث؟؟ لكأنّ يداً هائلةً ممسكةً بممحاة كبيرة، تقدّمتْ منّي في تلك اللحظة، ومَسَحَتْ من حولي الناس والبيوت والشّوارع والحقول والسّماء، ثمّ شدّتني من خاصرتي، ورمَتْ بي خارج المشهد!

وإلا ما معنى أن تتوقّف حياتك في نقطة، ثمّ تندفع لتكملها في مكانٍ ووجهةٍ نائيين؟ ما معنى أن تنقطع هكذا ومن دون مقدّمات عن عالمِك الذي نشأتَ فيه، فلا يعود يربطك به رابط؟

هل أنا في حلم؟ كان عبد الله أمامي، وتفرّستُه بعينيّ. كان ثمّة اختلاف شديد بين عبد الله الأمس، وعبد الله اليوم! بقامةٍ ضئيلةٍ كان، وشعر خرّوبي ناعم يتطاير في الهواء. واليوم هو رجل كهل مثلي في أواسط الخمسينيات من العمر، وشعره أبيض تماماً مثل شعري. عمّ يمكن أن نتحدّث؟ لا شيء يجمعنا معاً، لا حكايات تسعفنا، لا مشاوير مشتركة بيننا، لا مناسبات سعيدة أو حزينة تلقي بظلالها علينا، فقد تقطّعت بنا السّبل وافترقنا، نعم افترقنا ليس لعام أو اثنين، وإنّما لثلاثةٍ وأربعين عاماً.

من باب المجاملة، رحتُ أسأله عن زوجته وأولاده، فذكر لي أنّه تزوّج من بنت أبي زيدان، وأنّ أصغر أبنائه نجح في التوجيهي، وأنّه جاء من الضفّة إلى عمّان ليسجّله في الجامعة الأردنية، ثمّ انهمر في سرد تفاصيل أحداث أجهلها، وأسماء أشخاص كثيرين لا أعرف منهم أحداً.

في هذه الأثناء تشعّبت مأساتي، أشياء كثيرة عنّت على بالي، وانقطعت علاقتي بها: أشجار الكينياء العملاقة، وجيرانها من أشجار البرقوق والصّبر، شجرة التفّاح النّاحلة الصغيرة، البَدُّ الذي نشأتُ فيه، جيراننا من عائلة الأفاعي التي كانت تسكن السّقف، الحارة وتينتها العملاقة، العين، وجه عيسى شماسنة، وسحابة دمه القادمة من جهة الغرب. أشياء كثيرة تذكّرتها، كانت جزءاً مهمّاً من كياني، ولكنني فقدتها. لقد كبرَتْ وترعرَعَتْ بعيداً عنّي.

ثمّة مؤامرة تُحاك ضدّي، عدوّي لا يحبّ أن يراني في وجهه صباح مساء، فاخترع حرباً وراء أخرى ليتخلّص منّي. عدوّي حرمني أن أقيم علاقة مع أشيائي الصغيرة، ولو استطاع لمنع عنّي حتى الهواء الذي أتنفّسه. تُرى أيّ عدوّ تافه ومنحطّ هذا العدو، وليست لديه أيّ ذرّة من الإنسانية!

حين رأيتُكَ لم أعرفكَ، قلتُ له، وتابعت: ولكنّ لك ذاكرة حديدية، فأنتَ عرفتني. أجاب بألَم: أنا الآخر لم أكن لأعرفك لولا صورك التي كنت رأيتها في الصّحف.