منطقة النّمو الوشيك في ضوء النّظريّة البنائيّة الاجتماعيّة

فيجوتسكي
فيجوتسكي
* رانيا شحادة سعيفان يُعَدّ فيجوتسكي زعيمًا كبيرًا في علم النّفس، وفي النّظريّة البنائيّة الاجتماعيّة، وقد رأى أنّ ما يحدث بين النّاس من تفاعلات اجتماعيّة يمثّل أساسًا في تنمية النّاحيتين العاطفيّة والمعرفيّة، وأنّ دائرة التّفاعل الاجتماعيّة عنده ليست دائرة ضيّقة، بل تتّسع لتشمل المحيط الاجتماعيّ للمتعلّم؛ ذلك المحيط الّذي يتأثّر فيه بشكل مباشر؛ من المدير، والأصدقاء، والزّملاء، وأفراد الأسرة، وكلّ من يتعامل معه في أنشطة الحياة اليوميّة المختلفة. وتبلورت فكرة هذه المقالة بتوجيه من الدّكتور محمّد خوالدة في أثناء دراستيّ لمساق "نظريّات تعلّم اللّغة وتعليمها"، في ضوء النّظريّة البنائيّة الاجتماعيّة، ومن ثم فبحسب فيجوتسكي يكتسب التّعلّم مظهرين أو يكتسي ثوبين؛ أحدهما: ثوب التّفاعل الاجتماعيّ، والآخر: ثوب داخليّ يحدث في عقل المتعلّم وفي نفسه، على أنّ هذا الثّوب الأخير إنّما تتجلّى آثاره عندما يجد المتعلّم نفسه في خضم بحر لجيّ؛ خضم من المشكلات والمتناقضات في مواقف تعليميّة حقيقية تنعكس فيها الفجوة المعرفيّة؛ ما يضطر المتعلّم إلى مضاعفة نشاطه لملء تلك الفجوة؛ مستندًا إلى التّوجيه والإرشاد القائمة عليه العمليّة التّعليميّة، وفي ظلّ ما يُعرَف بالسّقالات التّعليميّة؛ تلك السّقالات الّتي تصعد به إلى اعتلاء الغايات، ومن هنا تتجلّى أهميّة هذه النّظريّة البنائيّة في التّعلّم؛ إذ ربطت بين التّعلم والأمور النّظريّة وبين الواقع المعيش والحياة العمليّة للمتعلّم؛ فما قيمة التّعلّم والتّعليم إن كان عبارة عن مسائل نظريّة مجرّدة تمثّل جزيرة معزولة، أو برجا عاجيا من التّرف الفكريّ؟ إنّ التّعليم الحقيقي هو ذلك التّعليم الّذي تنعكس آثاره وتضيء أنواره في حياة الإنسان، وتجعله قادرًا على التّصدي للمشكلات الّتي تواجه حياته وتعصف بها بريح هوجاء؛ فأصبحت اللّغة مرتبطة بالحياة، وليست مجرّد قصص لقرون سابقة تعيش وتتنفس وتحيا في بطون المجلّدات على الأرفف في المكتبات؛ حيث الغبار والتّراب وخيوط العنكبوت. إنّ التّأمّل والنّظر العميق الاستشرافيّ لمنهج فيجوتسكي يجعلنا نستشفّ تعريف النّمو الوشيك؛ بوصفه: "المسافة الفاصلة بين التّطوّر الفعليّ المستند إلى القدرة على حلّ المتعلّم المشكلة منفردًا وبين مستوى النّمو المتوقّع المعتمد على حلّ المشكلة بمعاونة المشرف والأقران"؛ ومن ثمّ فإنّ المنطقة الفاصلة بين التّطورين هي النّمو الوشيك أو ما يمكن التّعبير عنه بحيز النّمو المُمكن. وتمرّ منطقة النّمو الوشيك بأربع مراحل؛ تبدأ: بتلقي المساعدة ممن يقدر على أدائها، وهنا تتّسع منطقة النّمو الوشيك وتصل إلى أقصى رحابتها؛ إذ يعتمد المتعلّم في هذا الطّور على مساعدة أقرانه ممن هم أكثر جاهزيّة وفاعليّة، ويتحدّد مقدار هذه المساعدة ونوعها، من خلال سنّ المتعلّم وطبيعة التّكليف المُلقى على عاتقه، ثمّ تنبثق المساعدة من الذّات في المرحلة الثّانية، بحيث تتفجّر المساعدة من ذات المتعلّم النّاضجة الّتي اكتسبت من الخبرة والتّجربة؛ ما يجعلها في غنى عن مساعدة الأقران، بل يتولّى المتعلّم زمام المبادرة؛ مسيطرًا على الموقف التّعليميّ ومهيمنًا عليه؛ واعيًا ومدركًا المهام وحجمها وطرائق إنجازها؛ عاملًا عليها بنور وبصيرة، وتتجلّى في المرحلة الثّالثة تلقائيّة الأداء؛ إذ صار الأداء عند المتعلّم تلقائيًّا؛ كمن ينزل السّلّم وهو مغمض العينين في حركة آليّة لا تخطئ ألبتّة؛ حتّى إنّ فيجوتسكي عبّر عن ذلك بثمار التّطوّر الثّابتة؛ حتّى إذا وصل المتعلّم إلى هذا الطّور وتمّ تمامه واشتدّ عوده وأتقن المهارة، لم يعد أمامه إلّا العودة مرّة أخرى لامتلاك مهارة جديدة في دورة النّمو الوشيك السّرمديّة، ويتمّ في المرحلة الرّابعة: محو تلقائيّة الأداء، من منطلق أنّ لكلّ شيء إذا ما تمّ نقصان؛ ومن هذا المنطلق فليس بعد تمام امتلاك المهارة إلا البدء من جديد في المربّع صفر، وعودة المتعلّم مرّة أخرى إلى المرحلة الأولى للتعلّم من الأقران، لكن لاكتساب مهارة أخرى جديدة هذه المرّة. إنّ منطقة النّمو القريبة المركزيّة (ZPD) غير ساكنة، وإنّما هناك إزاحة مستمرّة لأعلى مستوى إنجاز للطّفل، إذ إنّ المهارات والسّلوك في منطقة النّمو القريبة المركزيّة ديناميكيّة ومتغيّرة بشكل ثابت، فالّذي يعمله الطّفل اليوم ببعض المساعدة هو الّذي يعمله غدا بشكل مستقل وبمساعدة أقلّ. ويعتمد فيجوتسكي على ركائز مهمّة منها: الاهتمام باللّغة باعتبارها أداة نقل الخبرة الاجتماعيّة إلى الأفراد، والاعتماد على الأدوات النّفسيّة كالخرائط والرّسم، والحوار الشّفهي، والرّموز والإشارات. وأخيرًا أقول: إنّ النّظريّة البنائيّة المستندة إلى النّمو الوشيك لها أكبر الأثر في تعلّم اللّغة؛ لما تحتويه استراتيجيّاتها من تفاعليّة بين المعلّم والمتعلّم والأقران؛ ما يضع المتعلّم في سياقات شبيهة بالمواقف الحياتيّة، ويجعل الاستعمال اللّغويّ عنده مستندًا إلى الحاجة الفعليّة، لا المحاكاة في أمثلة مبتورة من سياقاتها لا توصله إلى أيّ شيء.اضافة اعلان