منظومة الأخلاق في وقت الأزمات

ساقتني الإجازة الإجبارية التي سببتها الأحوال الجوية، إلى الإبحار بين دفتي كتاب "خمسة أيام في مستشفى ميموريال"، للطبيبة والكاتبة شيري فينك، وتصف فيه الأيام التي تلت إعصار "كاترينا" الذي ضرب مدينة "نيو أورلينز" الأميركية في العام 2005.اضافة اعلان
تتحدث الكاتبة عن خمسة أيام قضاها الأطباء والممرضون والمرضى في المستشفى، بعد أن غمرته المياه وفاضت فيه مياه الصرف الصحي، ما أدى إلى تعطل مولدات الكهرباء الاحتياطية؛ فغرق المستشفى في ظلام دامس، وتعطلت الأجهزة الحيوية وأجهزة التكييف. وبالتالي، تحول المستشفى إلى مستنقع آسن، تختلط فيه المياه الملوثة بالفضلات البشرية وفضلات الحيوانات، فيما أصوات الأعيرة النارية تُسمع بوضوح في الشوارع المجاورة، بعد أن أحكمت العصابات سيطرتها على أجزاء واسعة من المدينة، فتشتت العاملون بين خوفهم على سلامتهم الشخصية وسلامة عائلاتهم، وبين واجبهم تجاه مرضاهم.
يتناول الكتاب عدة محاور، لكن أهمها هو مناقشة خياراتنا الأخلاقية في وقت الأزمات.
فالأطباء والممرضون عملوا أياما طويلة بعد أن خذلهم الجميع، معزولين عن العالم، في ظروف أعادتهم إلى القرون الغابرة. وفوق ذلك، وجدوا أنفسهم مضطرين إلى اتخاذ قرارات أخلاقية لم يختبروها من قبل، تتعلق بمصير مرضاهم.
القرار الأصعب الذي كان عليهم مواجهته، تمثل في تحديد أولوية الإخلاء؛ أيّ المرضى أحقّ بالإخلاء أولا. واستقر رأيهم على تأخير الحالات الحرجة إلى آخر المطاف، واستغلال الموارد المحدودة المتوفرة لإخلاء أولئك الأفضل حالاً الذين يملكون فرصة أكبر للنجاة. كما وُجهت اتهامات لبعض الأطباء والممرضين بحقن بعض المرضى المحتضرين بجرعات قاتلة من المورفين لتخفيف آلامهم، وعدم تركهم فريسة للعصابات التي قد تقتحم المستشفى بحثا عن الأدوية المخدرة. وبالفعل، خضع بعض العاملين في المستشفى للمحاكمة فيما بعد بتهمة القتل العمد، لكن المحلفين لم يدينوهم، بل إنهم حصلوا على تعاطف شعبي كبير؛ إذ اعتبرهم البعض أبطالا، بعكس حالة السخط العارم الذي صبه الناس على السلطات. وهذا دليل على أن الناس يقدرون الإخلاص في العمل، حتى لو كانت الخيارات إشكالية.
تطرح الكاتبة هنا العديد من الأسئلة الخلافية والشائكة، تتعلق بالبعد الأخلاقي لمهنة الطب. أولها، مدى عدالة محاسبة أناس تركوا عزلا في وسط معركة غير متكافئة مع الإعصار، إذ لم يتسلحوا بالأدوات الضرورية لمواجهته، بل ولم يتلقوا التدريب الملائم لذلك. كما تطرح إشكالية التصرف واتخاذ القرارات عندما يتصادم العقل مع القلب؛ والتعاطف الإنساني مع القانون والمعتقدات الدينية؛ والقناعات الشخصية مع القواعد المهنية. ثم، هل من العدل أن نتخذ قرارات مهمة تخص حياة الآخرين بناء على ما كنا سنختاره لو كنا مكانهم؟ وهل النوايا الطيبة تعفي الإنسان من المساءلة القانونية؟ وأخيرا، هل من العدالة بمكان محاكمة خيارات الناس الأخلاقية ونحن نجلس خلف مكاتبنا الوثيرة، ننعم بكل وسائل الرفاهية؟
قصص المآسي والكوارث تشدنا، لأنها تجعلنا نختبر خياراتنا الأخلاقية فيما إذا وُضعنا في ظروف مشابهة؛ هل ستصمد قيمنا إذا ما وضعت على المحك، أم ستطغى الأنانية وغريزة النجاة الفردية؟ فالظروف الاستثنائية تكشف عمق التزامنا الأخلاقي، وحجم الفجوة بين التنظير والتطبيق.
المحور الثاني الذي حاول الكتاب تسليط الأضواء عليه، هو مدى جاهزية المستشفيات للأوضاع غير الطبيعية والكوارث. فالقائمون على المستشفى كانوا يعلمون مسبقاً أن المولدات الإضافية لن تصمد أمام أي فيضان، ومهبط الطائرة لم يستعمل لسنوات عديدة، وإضاءته غير كافية، ولا يوجد عقد ينظم عملية الإخلاء الجوي. كما أن التسلسل الإداري الذي يجب أن يحكم مثل هذه الحالات غير واضح المعالم.
إذا كانت دولة عظمى كالولايات المتحدة التي تحكمها قوانين وأنظمة راسخة، قد فشلت في اختبار مواجهة هذه الكارثة، فإني أدعو الله أن لا يختبر جاهزيتنا حتى بما هو أقل منها، لأن النتائج قد لا تكون سارة.

*مدير عام مركز الحسين للسرطان