من أجل تفادي اندلاع الحرب الأهلية في سورية

سوريات يرفعن شعارات شعبية خلال الانتفاضة السورية - (أرشيفية)
سوريات يرفعن شعارات شعبية خلال الانتفاضة السورية - (أرشيفية)

باتريك سيل*
 (ميدل إيست أونلاين) 22/11/2011
ترجمة: عبد الرحمن الحسينياضافة اعلان
تبدو سورية وأنها متجهة نحو حرب أهلية. فعمليات الخطف المتبادلة، وكذلك حالات التعذيب وقطع الرؤوس وتشريد المواطنين، والتي تجري بين الطائفتين السنية والشيعية في مدينة حمص التي تقع في وسط البلاد -والتي غالباً ما توصف بأنها عاصمة الثورة- إنما تبعث بإشارات مخيفة عما عساه أن يكون مخبأ في المخزن لباقي البلد. وبالتأكيد، يجب أن يكون تجنب هذا الانحدار نحو الجحيم، هو الأولوية الفورية للزعماء العرب كما وللمجموعة الدولية على حد سواء.
ويقف المثال العراقي في الجوار هناك أمام الجميع ليطلعوا عليه. فقد دمر الغزو الأنغلو-أميركي بلداً عربياً رئيسياً، وتم فيه تحطيم المؤسسات والبنية التحتية في البلد، وأفلت العنان للعنات الطائفية، مما قدح زناد الحرب الأهلية، وقتل مئات الآلاف وتشردت الملايين من بيوتها أو أجبرت على الهروب إلى الخارج، وتفككت أوصال البلاد فيما أسس الأكراد دويلتهم الخاصة شبه المستقلة.
إن سورية تحتاج إلى تدخل مجموعة اتصال تتمتع بقوة كبيرة وبالحيادية لوقف عمليات القتل لدى الجانبين. ويجب أن يكون هناك توقف تهدأ خلاله الخواطر، وتتوقف خلاله أيضاً المظاهرات والمظاهرات المضادة، ويخلق مناخاً مواتياً لإجراء حوار حقيقي وفعلي يتم فيه الاتفاق على إصلاحات حقيقية، وعلى تنفيذ هذه الإصلاحات. ويجب أن يكون الهدف هو تحقيق انتقال سلمي إلى نوع مختلف من النظام، مصحوب بضمانات فعالة من كل الأطراف.
لكن الدول العربية والقوى الغربية ليست في وضع مناسب للقيام بهذه المهمة. ولا تحظى الأخيرة بالثقة، فالعديد جداً منها كانت قد اتخذت انحيازات واصطفافات، ونزعت الثقة عن الولايات المتحدة، على نحو خاص، بسبب دعمها الأعمى لإسرائيل. فبدلاً من جلبها السلام، أفضى فشل واشنطن المشهود في حل النزاع العربي الإسرائيلي، أو في الحقيقة في حل نزاعها الخاص الذي مضى عليه 32 عاماً مع إيران، إلى تمهيد الأرضية لحروب مستقبلية.
فمن هو الطرف الذي يستطيع تشكيل مجموعة الاتصال الضرورية؟ يقع اختياري على دول البريكس -البرازيل وروسيا والهند والصين، وهي بلدان تتمتع بهالة اقتصادية وسياسية فعلية، وباهتمام قوي للمنطقة. وتمتلك البرازيل، على سبيل المثال، روابط تاريخية وثيقة مع سورية ولبنان وفلسطين. وللملايين من البرازيليين أجداد كانوا قد هاجروا من هذه البلدان.لقد ظل النظام السوري الحالي واحداً من الأنظمة الأكثر ديمومة في الشرق الأوسط منذ ما يقارب النصف قرن؛ أي منذ استولى حزب البعث على السلطة في العام 1963. وما يزال الأسدان -الأب والابن- يحكمان منذ العام 1970. ومع ذلك، تنذر الأزمة الراهنة بخطر يحدق بالنظام، لأنه يواجه، لأول مرة تقريباً، تجمعاً لتغييرات داخلية وخارجية على حد سواء.
وكان آخر تحد داخلي كبير قد حدث في الفترة بين العامين 1977-1982، عندما هددت انتفاضة للإخوان المسلمين بقلب نظام الحكم، لكنها سحقت في حماة، ما أفضى إلى مقتل 10000 شخص على الأقل -وهي حملة قمع وحشي ما تزال أصداؤها تتردد حتى الساعة في الوقت الذي يحلم فيه الإسلاميون بالانتقام.
تتسم التحديات الخارجية التي تواجه سورية بأنها أكثر تكراراً بكثير. وهي تشمل غزو إسرائيل للبنان في العام 1982 بهدف طرد النفوذ السوري ونفوذ منظمة التحرير الفلسطينية، وجر لبنان إلى الدوران في الفلك الإسرائيلي؛ وأزمة العام 1988 عندما واجهت سورية احتمال الوقوع في براثن حرب على جبهتين مع تركيا وإسرائيل، ولم تحل الأزمة إلا بعد أن أقدمت سورية على طرد زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان؛ ثم جاء التحدي الأكبر على الإطلاق، والذي تمثل في غزو العراق في العام 2003، الذي كان قد أعد له بشكل سري ونفذ على أيدي المحافظين الأميركيين الجدد الذين يعدون مؤيدين لإسرائيل. ولو كان الغزو ناجحاً، فإن مما لا شك فيه أن سورية كانت ستكون الهدف التالي.
وعندما اغتيل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في العام 2005، أجبرت القوات السورية على الانسحاب من لبنان، ووجه النظام السوري بخطر الإطاحة به من جانب الرئيس الأميركي جورج بوش والرئيس الفرنسي جاك شيراك. وفي العام 2006، هاجمت إسرائل لبنان من أجل تدمير حليف سورية، حزب الله؛ ثم هاجمت غزة في أواخر العام 2008 وأوائل العام 2009، بهدف تدمير حليف سورية الآخر، حركة حماس الفلسطينية.
وقد تأطرت ذهنية النظام السوري -فكر الرئيس بشار الأسد نفسه- وفقاً لهذه الأزمات المتكررة والمنطوية على تهديد الحياة. وتعد تلك الأزمات مسؤولة، وعلى نحو ضخم، عن جعل النظام في الصورة التي آل إليها: سلطوي ودفاعي ووحشي ومهمل للإصلاحات السياسية، وأكثر من متحمس لممارسة السيطرة على مواطنيه وعلى الإعلام والجامعات والاقتصاد، وعلى كل واقع من وقائع المجتمع.
كان التهديد المستمر من جانب إسرائيل وراعيها الأميركي قد أفضى إلى خلق محور طهران- دمشق- حزب الله، وهو تحالف دفاعي نجم كعائق رئيسي للهيمنة الإقليمية الإسرائيلية الأميركية. ولا غرابة أن إسرائيل والولايات المتحدة تريدان لهذا المحور التدمير. وفي الوقت الحالي، تتعرض سورية لضغط كبير، لكن إيران أيضاً واجهت لأعوام الشيطنة الممنهجة والتخويف والعقوبات. وعاقدة العزم على حماية احتكارها النووي، تحاول إسرائيل دفع أميركا إلى الحرب ضد إيران -إن لم تكن حرباً فمزيد من العقوبات- فيما يستمر حزب الله؛ العضو الثالث في المحور، في تلقي معاملة التنظيم الإرهابي لأنه استطاع طرد إسرائيل من لبنان في أعقاب احتلال دام 18 عاماً.
في الأثناء، ما تزال غريزة النظام السوري تنصب على تفسير الانتفاضة الراهنة على أنها ضرب آخر من المؤامرة. ولأنه أخذ بالمفاجأة، كان رد الفعل الفوري للنظام أن لجأ إلى القمع الوحشي: استخدام الذخيرة الحية منذ البداية في درعا في منتصف آذار (مارس) الماضي. ومما لا شك فيه أن الرئيس بشار الأسد اعتقد بأن موقفه الوطني يعطيه المناعة ضد أي انتفاضات شعبية. لكن، وفي مواجهة الأزمة المتصاعدة، كانت قيادته ضعيفة، وخطاباته وتعهداته متأخرة وغير مقنعة، وأظهر فشله في الإمساك بزمام المبادرة وطرح اقتراحات ذات مغزى افتقاراً إلى الخيال السياسي، وقوضت عمليات القتل شرعيته إلى الحد المميت.
من هم الثورويون وماذا يريدون؟ إنهم الفقراء الريفيون الذين ما فتئوا يعانون من الجفاف ومن الإهمال الحكومي، والفقراء الحضريون ورجال الأعمال الصغار الذين سحقوا بالفساد وبمحاباة الرأسماليين المقربين من مركز السلطة، بالإضافة إلى جيوش من الشباب العاطل عن العمل. ومثل العديد من البلدان العربية، تعاني سورية من التفجر السكاني. ففي العام 1965 (عندما كتبت أول كتاب عن سورية)، كان عدد سكانها أربعة ملايين نسمة، لكنهم أصبحوا اليوم 24 مليوناً. وبمعدل خصوبة يصل إلى 3.26، من الممكن أن يصل عدد السكان إلى 46 مليوناً خلال 20 عاماً. وتعد هذه الأرقام كارثية. وببساطة، لا يقوى النمو الاقتصادي على مجاراتها.
يريد الثورويون وظائف وحكماً جيداً، وتوزيعاً عادلاً لموارد البلاد، ووضع حد للفساد والاعتقالات التعسفية ووحشية الشرطة. وهم ينشدون العزة والكرامة والاحترام، ولم يسبق لهم أن نعموا بأي خبرة في الديمقراطية، ولا ينطوون إلا على معرفة ضئيلة بما تعنيه. وثمة 40 % من المواطنين هم دون سن 14 من العمر، و3 % فقط أكبر من 65 سنة من العمر -مع ذكريات قليلة عن الحكم ما قبل البعث وقبل الأسد، وهي ذكريات لم تكن في كل الأحوال متسمة بكل بتلك الديمقراطية.
رغم أنه معزول، وخاضغ للعقوبات المفروضة عليه ومدان دولياً، ما يزال النظام مالكاً لعدد من الأرصدة. وطالما ظل الجيش والأجهزة الأمنية موالية، فسيكون من الصعب على المعارضة أن تطيح به. وكلما لجأت المعارضة إلى السلاح، أمعن النظام في الإحساس بأن لديه المسوغ الكافي لسحقها. وفي الأثناء، لا ينطوي الغرب على شهية للتدخل العسكري في سورية، وستتولى روسيا والصين حمايتها من أي قرار لمجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة يخول باستخدام القوة. وتظل المعارضة في الغضون منقسمة على ذاتها بينما ما يزال النظام يتمتع بدعم شريحة ضخمة من الطبقات الوسطى والعليا في المدن الكبيرة، كما ومن العلويين والمسيحيين والدروز، ومن أعداد ضخمة من الموظفين المدنيين، بالإضافة إلى أن هناك، ومن دون شك، غالبية صامتة تخشى من ملاقاة مصير مرعب مثل مصير العراق.
وفيما يتصاعد العدد الإجمالي للقتلى، يصبح التوق للانتقام أكثر حدة ويتعمق الانقسام الطائفي. ويلوح شبح الحرب الأهلية في الأفق، ومعه تبرز الحاجة الماسة لإجراءات يجري اتخاذها بعناية بغية تجنبها.
*كاتب بريطاني بارز حول شؤون الشرق الأوسط. كتابه الأخير هو "الصراع من أجل الاستقلال العربي: رياض الصلح وصانعو الشرق الأوسط الحديث" (مطبعة جامعة كيمبردج).
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Averting Civil War in Syria