من أين أنت تصير من نحن

أحاول أن أتخلص من الشعور الثقيل الذي يكبس علي ونحن نتحول إلى مجموعات من البشر تغلق علينا الحكومة الساعة السادسة مساء وتطلقنا الساعة الثامنة صباحا، وأكمل ما كتبته يوم الجمعة الماضي بعنوان من أين أنت. والحال أن الأمر (من أين أنت؟) ليس كله ردة بدائية وحروبا عشائرية وجهوية بائسة ومضحكة حتى عندما يكون الاختلاف بين دور الدولة في الاقتصاد وتحرير الأسواق حربا جغرافية وعشائرية، أو عندما ينتخب جمهور تقوم حياته ومصائره على تحسين التأمين الصحي الحكومي والدور الاجتماعي والرعائي للدولة مرشحا يؤيد إلغاء مشروعات الدولة للتعليم والتأمين الصحي وتحويلها إلى سوق استثمارية مفتوحة حتى للأجانب، ينتخبونه فقط لأنهم يشتركون في البلدة التي ينتسبون إليها والتي لا يعرفونها ولم يعرفها آباؤهم أيضا، ولكنه يصلح سؤالا لملاحظة الفسيفساء الثقافية والاجتماعية التي تشكلنا، صحيح! من أين نحن؟اضافة اعلان
في الأردن بخاصة، البلد المشغول بالسؤال تبدو المدن والمجتمعات تتغير وتتحول لدرجة أن إجابة السؤال (من أين أنت؟) تبدو أقرب إلى الاستحالة، فالمدن والمجتمعات لم يكد يتبقى منها شيء، من منا يعيش في البيت الذي ولد فيه؟ من يذهب إلى الطبيب أو يتذكره الذي كان يذهب إليه في طفولته؟ أو يأخذ أبناءه إليه، وماذا يربطنا بالأحياء التي نعيش فيها والمدارس التي كنا ندرس فيها، وما العلاقة بين الأحياء القائمة اليوم وما كانت عليه قبل سنوات قليلة، من أين هم الذين يقيمون اليوم في أحياء كانت قبل سنوات قليلة غابات أو حقول قمح أو مناطق مهجورة، ثمة أحياء تعني لابني اليوم عالما من الصخب والمولات وما بعد الحداثة هي نفسها تعني لي رحلات ومخيمات كشفية، فهل هي إجابة واحدة لي عندما أجيب بأني من دير غبار او دابوق بالنسبة لمن هم في جيل أبنائي؟
عندما تطالع كتاب زيد حمزة المولود في الثلاثينيات "بين الطب والسياسة" وتقرأ عن مدينتي إربد وعمان فإنك لا تعرف شيئا مما يحدثك عنه، وعندما تنظر في تشكلات المدن والمجتمعات اليوم يبدو السؤال (من أين أنت؟) محيرا وصعبا وقاسيا، فما نشاهده اليوم ليس سوى تجمع من الدوائر الحكومية الهائلة والشركات الكبرى ولكن من غير ناس تقريبا، كأن الناس والمجتمعات ليسوا سوى تجمع من العمال وأسرهم لا يربطهم بالمكان شيء يذكر.
وحين تنظر في الانتخابات النيابية ونتائجها وتشكيلات الحكومات المتعاقبة تنتابك الحيرة والغموض في الفهم حول النخب الجديدة وتشكلاتها، إلى أين تمضي عمليات اختيار النواب والوزراء والقادة والمسؤولين في فوضى هذه التشكلات، وفي غياب المجتمعات عن التأثير وعدم قدرتها على التوازن مع الحكومات/ السلطات التنفيذية والشركات؟
مازال يعيش معنا الجيل الذي نهض بالدولة الحديثة وأنشأ أجمل وأهم ما لدينا من مستشفيات وجامعات ومؤسسات ومرافق، ومرت به أحداث جسيمة وهائلة، من الحروب والنكبات والنكسات والأزمات والاغتيالات والصراعات الداخلية والإقليمية والعالمية، ولكنهم عبروا بالدولة والمجتمع من ذلك كله، وصار لدينا مدارس تستوعب جميع الطلاب، وجامعات أكثر مما نحتاج إليه، بل إن أزمتنا اليوم في التوسع العشوائي في التعليم، وصارت لدينا مؤسسات حكومية كبرى ومعقدة وشركات وتجارة واستثمارات تدير وتورد الخدمات والاحتياجات، ولكنا فقدنا المجتمعات التي كانت بحيويتها وقدراتها شريكا كفؤا للحكومة والقطاع الخاص، والتي أدارت استجابة واعية وناجحة مع التحولات، ونبدو اليوم وكأننا حكومات وشركات متطورة من غير مجتمعات!