من "الأمة" إلى منجز "سايكس-بيكو"

يبدو أنصار روسيا؛ في دعمها المتواصل لنظام بشار الأسد وصولاً إلى تدخلها العسكري المباشر لحمايته من السقوط، أكثر المصدومين -إنكاراً أو إدانة "ناعمة"، حتى الآن- باقتراح موسكو حلاً "فيدرالياً" للصراع في سورية. فرغم ما يستحضره المصطلح، عالمياً، من نماذج نموذجية في الحكم والازدهار الاجتماعي والاقتصادي وسواهما؛ لاسيما سويسرا والولايات المتحدة الأميركية، إلا أن "الفيدرالية" (المفروضة من الخارج) في العالم العربي لا تملك دليلاً على "إنجازاتها" إلا عراق ما بعد حرب العام 1991، وصولاً إلى الغزو الأميركي في العام 2003؛ بكل ما عناه ويعنيه ذلك حتى اللحظة من دموية وخراب، وبالتالي موت سريري، في أحسن الأحوال، للدولة العراقية.اضافة اعلان
ولعل أول وأبسط تناقضات المصدومين من محبي الدور الروسي العسكري في العالم العربي (فليس لها أي دور آخر على الإطلاق)، أنهم أصروا على تقديم روسيا دولة عظمى قادرة على تحدي الولايات المتحدة ذاتها، لكنها (روسيا) في الوقت ذاته ستنفذ مطالب دول صغرى، بل وأنظمة مهترئة متهالكة كنظام الأسد، وحتى مطالب أفراد؛ قوميين أو يساريين أو مجرد كارهين لأميركا وحلفائها. فهل يستقيم أن تكون روسيا طامحة إلى تقاسم عرش العالم، وقادرة على ذلك كما يُقال، لكنها في الوقت ذاته تمارس دور بندقية للإيجار، للصغير قبل الكبير؟!
أما التناقض الأهم، والأوضح، فهو تحول أقصى أماني القائلين سابقاً بـ"الأمة العربية الواحدة" و"الأممية العالمية"، إلى الحفاظ على منجز "سايكس-بيكو" الغربي الاستعماري، ممثلاً في "الدولة القُطرية" التي طالما وُصفت بـ"المصطنعة" وحتى "الطارئة". ولهذا التناقض جانبان أساسيان، يفسران الواقع الحالي، كما ينبئان بالمآلات السوداوية التي سيحملها المستقبل في حال استمرار المعطيات الحالية.
فتحول الحفاظ على منجز "سايكس-بيكو" إلى ذروة أماني النجاة اليوم، على ما في ذلك من بؤس، يجد أساسه في إنكار أي شرعية للدولة العربية القُطرية. ومن ثم، صار مبرراً تماماً، لاسيما لدى الأنظمة القومية، تأجيل أو في الحقيقة إعاقة كل مشاريع التنمية بانتظار تحقق الشرط الذي لا غنى عنه، وهو إنجاز "وحدة" عربية. كما صار ممكناً تبرير كل وسيلة دموية قذرة فاسدة، بالغاية "القومية" السامية التي لم تأت أبداً، ولم يكن ممكناً أن تأتي في ظل أنظمة مستبدة.
هكذا يبدو الآن الجانب الآخر لتناقض الانتقال من مشروع إنشاء الأمة إلى الحفاظ على الدولة القُطرية. فالساعون إلى ذلك، كما تُظهر خلفياتهم العربية القومية والأممية، لا يريدون فعلاً رد الاعتبار للدولة العربية القُطرية، منجزاً نهائياً يجب الحفاظ عليه بالتنمية الشاملة؛ سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. فمثل هذا الهدف القُطري/ الوطني لا يمكن أن يصدر عمن يقررون أن لهم كل الحق في تبرير ودعم قتل الشعوب العربية وحتى استباحة بلدانها من قوى خارجية بدعوى المقاومة والممانعة ومناكفة الولايات المتحدة والإمبريالية الغربية (دون الشرقية).
يبقى السؤال الأهم: هل "سايكس-بيكو" هي فعلاً الحل لأزماتنا ومآسينا الحالية؟ أبداً. إذ بشكل موضوعي، متجرد من كل أيديولوجيا وعواطف، هي كانت أحد عوامل الوصول إلى الواقع القائم، إذا أقررنا بأن ثورات الشعوب العربية لم تكن مؤامرة كونية يشارك فيها أهل المريخ وعطارد، بل نتاج فقر وبطالة وتهميش واستبداد. وليكون المطلوب رد الاعتبار للدولة القطرية/ الوطنية العربية، إنما مع إدراك عدم إمكانية حمايتها من دون تعاون وتكامل عربي إقليمي (أي "فوق قطري")، هو وحده ما سيسمح لكل دولة بالنهوض بواجباتها تجاه مواطنيها، وبالتالي حماية كيانها الذي يتفق الجميع على "قدسيته" الآن.