من المراجعة إلى الفوضى

بسرعة غير متوقعة تغيرت الكثير من الخرائط والكثير من التوقعات في السلوك الدولي في الاسابيع الاخيرة، وتحديدا بعد بدء الإدارة الأميركية الجديدة برنامجها السياسي بما فيه من مفاجآت، وبدل العودة إلى الداخل وتقليل التدخلات الخارجية تزج الولايات المتحدة نفسها بقوة في الصراعات الدولية، وترفع وتيرة حدة الصراع بالمزيد من التهديدات؛ ضربة صاروخية غير متوقعة لاهداف استراتيجية سورية، وتوتر مفاجئ في العلاقات الاميركية الروسية على خلفية الانقلاب على مواقف وتفاهمات سابقة. وفي مكان قصي اخر تزداد وتيرة التهديدات لكوريا الشمالية وهي مرشحة لعمل عسكري لا احد يدري حجم تداعياته ان وقع. يحدث ذلك بعد ايام قليلة من زيارة للرئيس الصيني لواشنطن عدت بأنها زيارة تاريخية.اضافة اعلان
العالم ينتقل بسرعة كبيرة من فكرة المراجعات العميقة الى مرحلة من السيولة الاستراتيجية والفوضى السياسية في الوقت الذي يتراجع فيه الانضباط الدولي خلف القوى العظمى، وهي مرحلة تشبه المراحل التي سادت قبل الحروب الكبرى وانهيارات النظم الدولية، ولا يمكن فهم كل هذه الفوضى التي تتجاوز التوقعات بدون الذهاب عميقا نحو التحولات التي تشهدها المجتمعات وما يحدث من صعود للقومية والشعوبيات الجديدة واستهلاك مفرط للتكنولوجيا والإعلام الجديد، وعلاقة كل ذلك ببروز انماط جديدة من التعبيرات السياسية التي تأتي بها الصناديق وادوات الديمقراطية، يدعو كل ذلك الى اعادة تعريف الطبقة الوسطى والاتجاهات الجديدة في العالم.
لاحظوا كيف تصعد شعبية الرئيس الروسي فلاديمير بوتن في خارج العاصمة في اوساط الطبقة الوسطى الدنيا، وفي نسخة اخرى يتكرر الامر مع الرئيس التركي طيب رجب إردوغان، الذي يحظى بدعم قاعدة شعبية واسعة في أوساط الطبقة المتوسطة الدنيا المحافظة وهذا سوف ينسحب على موجة جديدة من الزعامات الجديدة.
هناك مؤشرات تدل على اضمحلال اتجاهات العولمة تعود الى اكثر من عقد، سواء في اتجاهات التجارة الدولية وما لاحقها من قيود وانسحابات وصولا الى الثقافة وما لحق بفكرة المواطنة العالمية من سخرية. ومع هذا بات في حكم المؤكد ان صورة العولمة التي سادت في اواسط تسعينيات القرن الماضي قد انتهت، في الوقت الذي يتوالى صعود التيارات القومية – الشعبوية الجديدة التي أخذت تتصاعد منذ العام الماضي بشكل صادم ممزوجة بنبرة يمينية محافظة تضرب اوروبا وجهات اخرى من العالم، وليس خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الا احد تجلياتها وصولا الى رفض الايطاليين مؤحرا التصويت لصالح اصلاحات جديدة. وحسب فرانسيس فويكاياما فإن عصرا جديدا من القومية الشعبوية يصعد، يتعرض فيه النظام الليبرالي الذي أخذ في التشكل منذ خمسينيات القرن العشرين للهجوم من قبل الأغلبيات الديمقراطية الغاضبة والمفعمة بالطاقة والحيوية.
في هذا الوقت تزداد المناقشات الخافتة للاخطاء والانكشاف الذي بدا على اداء منظومات الامن والعمل الاستخباري في السنوات الاخيرة، وفي المقدمة فشلها في احتواء ظاهرة الارهاب العالمي، وانكشاف العديد من ملفات التزييف في عمل هذه المنظومات، ما يجعل هذه المنظومات على طاولة المراجعات. ألم يستخف فريق الرئيس الاميركي الجديد بأعمال هذه المؤسسات ولم يتوقف عن التذكير بتقاريرها حول امتلاك صدام حسين اسلحة استراتيجية! في هذا الملف قد تتراجع بسرعة فكرة المراجعة الى الفوضى.