من المسلي والمخيف

يتعرض الجمهور الأردني الآن لموجة كثيفة من المؤثرات الإعلامية في موضوعات حساسة تتناول الشأن الداخلي السياسي والاقتصادي والاجتماعي. لعل أبرز مظاهرها تتمثل بالفيديوهات والتسجيلات الصوتية، ذات المصدر الداخلي حينا والخارجي أحياناً، وتشترك بعض القنوات التلفزيونية المحلية في تقديم صيغ مماثلة، أكثر هدوءا وأدنى سقفاً، لكنها تنتمي في الجوهر إلى الممارسات ذاتها.اضافة اعلان
تشترك الفيديوهات بميزتين: إنها مسلية من جهة ولكنها مخيفة ومثيرة في الوقت نفسه.
الظاهرة ليست خاصة بالأردن، وهي ليست حديثة، لكنها تبرز في ظروف ومراحل اجتماعية سياسية معينة، وتتأثر بمواصفات وخصائص المجتمعات المختلفة كما تتأثر بتبدل ظروف كل مجتمع، فالشكل الذي تظهر به اليوم يختلف عنه فيما مضى وقد يكتسب شكلاً جديدا في المستقبل.
تذكرون المذيع التلفزيوني المصري "توفيق عكاشة" الذي اشتهر قبل سنوات بعد أن أجرى العديد من التقلبات على مواقفه.
ظاهرة توفيق عكاشة لفتت أنظار الباحثين في الاجتماع السياسي، إلى درجة أن عالم أنثروبولوجيا (علم الإنسان)، حضر من أميركا إلى القاهرة وتابع الظاهرة وألف عنها كتابا خاصا بعنوان "حاوي الثورة المصرية: دراسة أنثروبولوجية لظاهرة توفيق عكاشة".
و"الحاوي" هو جامع الحيّات (الثعابين) ومُرقّصها ومُلاعِبها، وهو عمل ينطوي على قدر من الذكاء والجرأة والاحتيال والتسلية والرعب في الوقت ذاته.
يقول المؤلف إن الظاهرة موجودة عبر التاريخ، وهي تبرز بشكل خاص في المجتمعات التي تعاني من تشويش وفوضى وانعدام رؤى مشتركة وقلق وغياب الثقة العامة، التي تنتشر في فترات التحول والانتقال.
بالطبع، لا تتماثل الحالة الأردنية مع المصرية، ولا يتماثل أصحاب التسجيلات الأردنيون، مع حالة توفيق عكاشة. فالأخير كان نتاجاً لمزاج مصري خاص ولثقافة شعبية مصرية تحتمل هذا النموذج، وقد قدم نفسه بطريقة خاصة قد لا تتكرر خارج مصر.
لكن علينا أن نتذكر أن الإعلام المصري شهد وما يزال يشهد نسخاً متنوعة من توفيق عكاشة بعضها ينتمي إلى المعارضة وبعضها إلى الموالاة، كما وفرت قنوات وفضائيات دولية حيزا لشخصيات مماثلة مناقضة لعكاشة لكنها مماثلة له في الجوهر.
في الأردن لدينا نماذجنا الخاصة التي تأخذ بالاعتبار الواقع الاجتماعي السياسي الخاص ببلدنا، ونجد فيها ممثلين للموالاة إلى جانب ممثلي المعارضة.
فيما تبقى من سطور هذا المقال، سأجري محاولة تحليل سريع للظاهرة أردنيا:
لقد مررنا في الأردن منذ عشر سنوات في مرحلة شكلت نسختنا الأردنية، خاصة لجهة التوقعات الشعبية بحصول تغيرات حقيقية انتظرها الناس.
لقد كان الأداء الشعبي الأردني منتبهاً وحريصا ووطنيا، لكن السياسات والممارسات الاستفزازية ذاتها استؤنفت، ما أدخل المجتمع والجمهور في مرحلة تشويش جديدة. لقد كان الجمهور ينتظر شكلا مناسبا من المكافأة على موقفه، فقوبل بالعكس.
إن الأجوبة الرسمية غير مقنعة، ومجمل المشهد الرسمي لا يحظى بالثقة، وهو ما ترك فراغاً تسده هذه الموجة أو هذا الخليط من أنصاف المعلومات وأنصاف الحقائق والفهلوة والجرأة والجبن والتخفي والمواراة وخلط المفاهيم... وغير ذلك مما يتقنه مرقصو الثعابين، الذين يتوزعون في حالتنا على المعارضة والموالاة معاً.
يترافق ذلك مع غياب خطاب أو خطة أو منطق للمعارضة "التقليدية"، إذ تتراوح هذه المعارضة بين مواقف مسؤولة ولكنها بلا جمهور، ومواقف مجاملة حرصاً على "عدم التخلف عن الجماهير". بينما اختار الإسلاميون "الكمون" والامتناع عن تقديم موقف معلن لعل هذا التشويش الشامل يأتي بوقائع جديدة "مناسبة"، وذلك انسجاما مع نمط الانتهازية الخاص المعتمد.
إن تاريخ الأردن مع الأزمات يقول بضرورة تقديم أجوبة "رسمية" منحازة وطنياً وجريئة وصادقة، تحترم الشعب، الذي يتابع الآن ما يجري بانشداه، فيتسلى شكليا ولكنه يقلق جوهريا.