من حق سالم النحاس أن يرحل!

كان من حق سالم النحاس أن يرحل، قبل أيام، بعد أن اطمأن، بحسه النضالي، أن ثورة المصريين منتصرة لا محالة!

والحال أنني كنت، طوال ثلاثة عقود سابقة، مشفقا على سالم، الذي سفح حياته، نضالا وسجونا، بانتظار بارقة حرية عربية واحدة يملأ رئتيه بها!

وقبل رحيله، خاض سالم تجربة المرض، كما خاض تجربة النضال، تماما، فقد أوغل بها، تماما، حتى آخر قطرة ألم.. وكتبت آنذاك قبل سنوات، ردا على "المحتجين" على مرضه:

"من حق سالم النحاس أن يمرض.. من حق ذلك الرجل الخمسيني المشاغب، الذي يعشق الحرية، وأفلام الكرتون، أن يخصصوا له سريرا بملاءات بيض في المدينة الطبية..

من حقه أن يبعثر جسده كالطاووس، كيفما اتفق، على الإسفنج الرخو، وأن يداعب "الشرشف" بأطراف قدميه، وأن يتغذى بالجلوكوز المحلّى، وأن يبتسم للممرضة، بخبث، كلما حان موعد الإبرة!

نعم.. من حقه أن يخوض تجربة المرض بكل تلك "المواصفات"، التي لم تكن سانحة سابقا، أيام القمع، فهو لو مرض آنذاك، فسيتمدد على بلاط الزنزانة، ولن يكون هناك سرير في عنبر الضباط بالمدينة الطبية، ولا زهور، ولا ممرضات، ولا أصدقاء يطمئنون عليه البتة، لأنهم لن يعلموا بمرضه إلا عن طريق الصليب الأحمر، أو منظمة العفو الدولية!

لكن من سوء حظ سالم، أنه ما إن هرع إلى المستشفى، مزهوا بألق التجربة المرضية، حتى توالت أحداث جسام شغلت أقل الناس اهتماما بالسياسة، فكيف بسالم المسكون بهذا الهم قبل ولادته، كحرب الخليج، والاستسلام لمعاهدات السلام، وما يبيت للعراق من مؤامرات!

لهذا، ولما سيتلو هذا من فجائع، سأكون الوحيد الذي يهتف: لا.. ليس من حق سالم النحاس أن يمرض!".

حدث ذلك قبل سنوات بعيدة، وقبلها، إبان رفع الأحكام العرفية، كتبت أيضا:

"عزيزي سالم النحاس:

شرعت أبواب القفص، لكن الأسد لم يخرج!.. وأراك قلقا عليه، تود لو تقتحم القفص، وتدفع الأسد دفعا باتجاه الهواء الطلق، لكن هيهات، فأنت لا تتعامل مع أسد، لكن مع تراكمات عقود طويلة من الكبت، والتغييب وكمّ الأفواه!

تمنيت لو لم أرك ذلك المساء، حين دخلت مهرولا، مشتعل القلب، متورد الوجنتين، مستفسرا عن صحة ما سمعته عن إلغاء للأحكام العرفية، وحين أجبناك بالذي سفحت لأجله سني عمرك، خُيل إليّ أن ثلاثين عاما بأكملها فرّت من وجنتيك، بغتة، وحطّت على مشارف "مادبا"، وشاهدتك فتى مشاغبا يشدّها من سهولها الشقراء، إلى جولة عشق على سطح القمر!

قلت: (تمنيت لو لم أرك)، لأنك سرعان ما انسحبت إلى داخلك، وغمغمت بأسى: لو يعلم الأردنيون مدى تاريخية هذه اللحظة، لتدافعوا إلى الشوارع، راقصين.

على أي حال دعنا نتفاءل يا سالم، فقد يكون لفتورنا وانكماشنا أسباب أخرى، لا علاقة لها بالحرية!

لماذا أتذكر كل هذا الآن.. ألأنه صار من حقك يا سالم أن ترحل، كما كان من حقك أن تمرض قبل ذلك.. وهل كنت، أصلا، انتزعت أي حق من حقوقك السابقة في الحرية والكرامة والتعبير، حتى تقفز على حقوق أكبر منها؟ أما كان بوسعك أن تنتظر قليلا، ريثما تتنعم قليلا بنسائم الحرية والكرامة، التي حلمت بها، وكافحت من أجلها طويلا؟

هكذا حالك يا سالم، على حد تعبير الشاعر:

ينبئك من شهد الوقيعة أنني

أغشى الوغى وأعف عند المغنم

اضافة اعلان

فوداعا.. وداعا أيها الحر الزاهد....!

[email protected]