من غير كلام

المشهد العام للانتخابات وما يسبقه من الدعاية والاعلان يذكرني بمقطوعة من الغناء الشعبي اشتهرت في الريف الاردني وكنا نرددها في المواقف التي يطغى فيها المظهر على المضمون فنقول "شوفيني يا مرت الخال.. ثوب احمر واردان طوال". او باللعبة التي كانت تتضمنها برامج التسلية والترفيه التلفزيوني "من غير كلام "  التي يقوم من خلالها اعضاء الفريق الواحد بالتعرف على الموضوعات والاجابات باستخدام الاشارات. في المشهد الانتخابي اليوم الكثير من الصور وقليل من الكلام عن البرامج والتحديات والخبرة. الامر الذي يثير الكثير من الاسئلة حول مخرجات العملية الانتخابية. اضافة اعلان
 فضاء المدن والبلدات الاردنية يكاد يخلو من الحديث عن مستقبل مدننا ومحافظاتنا وتحدياتها التنموية، لكنه مرصع بصور مئات الرجال والنساء الذين يتسابقون للحصول على مقعد من مقاعد المجالس البلدية والمحلية (اللامركزية) المطروحة عند منتصف الشهر الحالي. وباستثناء بعض الشعارات التي يصعب ان تربط بين مضمونها وشخصيات من استخدمها، فإن شوارع المدن ودواويرها تحولت الى ما يشبه معارض لصور مرشحين ومرشحات يصعب تذكر اسماء بعض اصحابها وربطها بإنجاز أو اهتمام في الشأن العام.
في معظم مجتمعات العالم تكون الانتخابات مناسبة يراجع المجتمع والساسة الواقع والمسيرة والتحديات لمجتمعاتهم ويتعمق الوعي المجتمعي من خلال الحوار والمناظرات، فيتعرف الناس على برامج المرشحين ومواقفهم. وسط هذه الاجواء لا يجرؤ على الترشح للموقع العام من هو غير مؤهل للقيام بالأدوار التي يتطلبها   الموقع. فغالبية المترشحين يكونون ممن عملوا في الشأن العام وانخرطوا في الأحزاب ويملكون المعرفة والمؤهلات والرغبة والقدرة والاستعداد لتحمل المسؤولية، اضافة الى الاستقامة والنزاهة والبعد عن الأنانية والمصالح الفردية والجهوية الضيقة.
في المنطقة التي أسكن فيها تمكن احد الشباب من رشم الشارع الرئيسي بما يزيد على ألف بوستر من الحجم الكبير الذي يشتمل على اسمه وصورته والمنطقة المترشح لخدمتها. صورة النجم الجديد الذي مكّنته أمواله من احتلال مفاجئ للفضاء العام لا تشير إلى شيء سوى قدرة المرشح على الإنفاق واستعراضه لملاءته المالية. في محاولة مني للتحقق فيما إذا كان بعض الاشخاص الذين نشروا صورهم في ساحاتنا وطرقاتنا وعلى جدران المحلات معروفين للناس قبل الإعلان عن الترشيح توجهت بالسؤال الى عشرات الجيران الذين صادفتهم فيما اذا عرفوا  هؤلاء الاشخاص او سمعوا بخدماتهم واهتمامهم بالشأن العام، لأجد بانه لا احد من هؤلاء الاشخاص معروف لدى السكان فالبعض يتذكر اسم العائلة ولا يعرف المرشح ولم يسمع به او عنه.
ما يجري هذا العام ليس جديدا فقد ألفناه في انتخابات المجالس البرلمانية والبلدية السابقة، حيث اقبل على الترشح بعض من لديهم الرغبة في تغيير نمط حياته او الحصول على مقعد يمنحه نفوذا لحماية مصالح أسرته، او تمكين من يقومون بأعمال تجارية ومقاولات وتعهدات من تيسير أعمالهم. الكثير ممن يعانون من البطالة والضجر يجدون في الانتخابات فرصة للمناكفة وطرح انفسهم كمرشحين من أجل ابرام صفقات أو ضرب الاجماعات العشائرية.
من الناحية الشكلية نجح الاردن في إدامة دوران العجلة الانتخابية في مواقيتها، لكن الفهم الشعبي والادوار التي تقوم بها المجالس ومستوى التواصل مع القواعد والثقة بالقدرة والكفاءة ما تزال موضعا للتساؤل. الغياب الواضح للبرامج الانتخابية وعزوف المرشحين عن التطرق لقضايا وتحديات الدولة والمجتمع واستمرار التركيز على الانتماء العشائري والعلاقات الشخصية كأسس لاختيار المرشحين عوامل اساسية في تردي الثقة الشعبية واستمرار حالة التدهور في اداء المجالس المنتخبة.
خلال العقود الاربعة الاولى من تاريخ المجالس المنتخبة في الاردن كان الترشح والمنافسة على المقاعد مقتصرا على الوجهاء والشيوخ ممن يعرفون مجتمعاتهم وقضاياها وأمضوا جل حياتهم في الخدمة العامة، اما اليوم فقد اصبح الدخول الى معترك الانتخابات محكوما بالرغبة والقدرة المالية دون اي اعتبار للقدرة والكفاءة والنزاهة. العشرات ممن يدخلون المجالس المنتخبة تنقصهم الرؤية الشمولية والبرامج الكفيلة بتحقيقها، ويفتقرون الى الخبرة والدراية والمهارات الضرورية لأداء المهام الموكولة اليهم، كما يجهلون القواعد واللوائح والتشريعات التي تحكم وتوجه عمل  مجالسهم.
بعض الشعارات التي يرفعها المرشحون في وجوه ناخبيهم لا معنى لها اذا لم يتمكن الناخب من التأكد من قدرة وصدق واستعداد المرشح لتنفيذ ما يقول. غياب الاعلام ومنظمات المجتمع المدني عن الانتخابات وعجز المجتمعات عن تنظيم مناظرات واجراء مقارنات بين المرشحين سيدخلنا في دوامة جديدة من الشكوى والتذمر الذي لا وقت لدينا له.