من قتل أبا القعقاع؟

د. محمود قول أغاسي، الملقب بأبي القعقاع، مدير مؤسسة "غرباء الشام للإعلام" وخطيب في بعض مساجد حلب، قُتل يوم الجمعة على يد أحد الشباب، ولا تزال تفاصيل وخلفية حادثة الاغتيال موضع جدال وتضارب، كما هي شخصية الشيخ الحلبي، الذي صعد سريعاً واختفى فجأة.

اضافة اعلان

 

أبو القعقاع، من مواليد مدينة حلب عام 1973، درس الشريعة الإسلامية وسافر إلى باكستان، بدأ يلقي الدروس في أحد مساجد مدينة حلب واشتُهر في عام 1999. لمع اسمه بصورة واضحة في الحرب الأخيرة على العراق، من خلال اتهامه (من وسائل إعلامية متعددة) بتجنيد الشباب السوري للقتال هناك ومساعدة "المتطوعين العرب" الذين يمرون عبر سورية بالعبور إلى العراق. أبو القعقاع أنكر ذلك – في المقابلات الإعلامية- وزعم أنه كان يحول دون الشباب العربي والتورط بالذهاب إلى العراق، في المقابل يؤكد خصوم الرجل أنه لعب دوراً كبيراً في التجنيد وتسهيل مهمات المقاتلين بمباركة الأمن السوري.

 

بلغت سمعة الرجل الأفاق، وتاثر به عدد كبير من الشباب الجهادي، وأخذت الأقراص المدمجة التي تحتوي على خطبه النارية ضد الاحتلال الاميركي تنتشر بصورة ملفتة في مناطق مختلفة في العالم العربي، وتمكّن من إقامة علاقات خاصة مع عدد من الشيوخ السلفيين المعروفين باستقلاليتهم عن الحكومة. إلاّ أنّ القاعدة انقلبت عليه وبدأ نشطاؤها يحذرون منه عبر الانترنت ومن علاقته بالأمن السوري لاختراق التنظيمات الجهادية.

 

وفي عدة مواجهات حدثت خلال الشهور الماضية بين الأمن السوري و"ناشطين جهاديين" ذكرت مصادر رسمية أنّ المهاجمين كانوا يحملون (أقراصاً مدمجة) لأبي القعقاع. اختفى الرجل فترة من الزمن، وقيل حول اختفائه وملابساته كلام إعلامي كثير. ومع بدء المواجهة بين "فتح الإسلام" و"السلطات اللبنانية" أشارت مصادر متعددة لعلاقة معينة بين نشاط أبي القعقاع والشباب العربي في تنظيم فتح الإسلام.

 

ليست مثاراً للشك تلك العلاقة الوطيدة بين أبي القعقاع والأمن السوري؛ فالرجل كان يعمل بحرية كبيرة ويلقي الخطب النارية وينظّم نشاطات دينية وسياسية في دولة شمولية تمنع كافة النشاطات السياسية- الإسلامية، وتمتاز بقبضة أمنية حديدية، فليس من المتصور بأي حال من الأحوال أن يكون عمله فردياً أو خارج السياق الرسمي المطلوب!

 

ربما يرى مقربون من الرجل أن له مشروعه الخاص الذي يرسم فيه التعامل مع المعادلة الداخلية المعقدة، إلاّ أنّ ما كان يقوم أبو القعقاع به يخدم – بامتياز- الأجندة الداخلية والإقليمية للحكومة السورية؛ فعلى المستوى الداخلي الحكومة بحاجة إلى صوت "إسلامي سني شعبي" يضفي مشروعية على النظام وسياساته في مواجهة جماعة الإخوان وللتنفيس عن الصبغة الدينية في المزاج الاجتماعي ويقوم بتعزيز فكرة الخطر الخارجي الداهم والتحريض على الولايات المتحدة الأميركية مع تخوين المعارضة المتحالفة مع الإدارة الأميركية.

 

وعلى الصعيد الإقليمي كانت الحكومة السورية بحاجة إلى تعطيل المشروع الأميركي في العراق ومواجهة خصومها في لبنان دون أن تتورط مباشرة في صراع له كلفته القانونية والاستراتيجية، لذلك لجأت إلى تطوير استراتيجية جديدة في توظيف الخطاب والمجموعات الدينية في اللعبة السياسية داخلياً وخارجياً، مع سهولة التخلص من "اللعبة"، إذا خرجت على القواعد المتوقعة، كما حصل – تحديداً- مع مجموعة فتح الإسلام في لبنان.

 

نموذج "أبي القعقاع" - على صعيد التحليل السياسي- يطرح إشكاليات وقضايا متعددة، في مقدمتها مسألة الاختراق الكبير الذي تعاني منه الجماعات المرتبطة بالقاعدة، هذا الاختراق لا يقف عند حدود التجسس الداخلي على الجماعات بل توظيفها لمصالح أطراف إقليمية لتلبية مصالحها وأهدافها، وهو ما يحدث حالياً مع كل من إيران وسورية اللتين تتنافضان طائفياً واستراتيجياً مع مشروع "القاعدة" لكنهما لا تترددان في فتح نوافذ خلفية للقاعدة للعمل والنشاط، طالما أنّ هذا يخدم أهدافهما.

 

من طبيعة العمل الأمني اتخاذ الإجراءات والسياسات التي تخدم الاستقرار والأمن وتحقق المصالح الوطنية لدولة معينة. لكن المشكلة الأخلاقية، إذا كان للإخلاق مكان في هذا الواقع البائس، تكمن في الاف الشباب العرب الذين يُغرر بهم هنا وهناك، وتُستغل عواطفهم الدينية والوطنية، ثم يصبحون ضحايا للعبة الأجهزة الأمنية والقيادات المخترقة، فتلمع أسماء إعلامية لا تمثل سوى واجهة عميلة أو مخدوعة ومستدرجة، كما هو حال صاحبنا أبي القعقاع أو شاكر العبسي. هذه اللعبة الأمنية "القذرة" تُذكّرنا بقصة الشاب الفلسطيني أبو العدس، ومسرحية الشريط الذي ظهر فيه على قناة الجزيرة يعلن مسؤوليته عن مقتل الحريري، فذهب "كبش فداء" مجّانياً بعد أن فشل معدّو الشريط بتقديم الحد الأدنى من "العرض" المقبول.

 

بالتأكيد مقتل أبي القعقاع هو نتيجة طبيعية لانتهاء دوره وانكشافه بصورة فجّة، والإلقاء بورقة لم تكن موضع إجماع داخل مؤسسات القرار السوري، عندئذٍ لا أهمية للتساؤل عمّن قتل أبا القعقاع: هل هي القاعدة - فعلاً- بعدما دخل في معركة إعلامية معها واكتشفت حجم الخداع الكبير الذي وقعت به، أم شباب سوريون ممّن غُرّر بهم فأمضوا سنوات في سجون العراق، ليكشتفوا أنهم كانوا أدوات في صراع أكبر منهم، أم من قرر إنهاء تلك اللعبة وإسدال الستار على خشبة المسرح!

  [email protected]