من قتل ناهض حتر؟!

لن تنسى الذاكرة الاردنية هذا اليوم الاسود، الذي يتم فيه اغتيال كاتب صحفي في عاصمتنا عمان، وامام صرح القضاء الذي نفاخر به الدنيا، مرجعا قانونيا وحقوقيا عظيما لكل صاحب حق وحاجة ومظلوم، ورمزا لدولتنا المدنية القانونية، حيث القضاء والقانون، ورغم كل الملاحظات والانتقادات لما يعتريهما هنا او هناك، هما رمز استقرارنا ورأس مال الاردن والاردنيين، في هذا البحر المتلاطم من الارهاب والتطرف والدماء والدمار، الذي تغرق به المنطقة وشعوبها! اضافة اعلان
ليست القصة ولن تكون هوية الضحية او جنسها او فكرها وايديولوجيتها، على اهميتها الانسانية الكبيرة، بل هي في من عششت برؤوسهم كراهية مقيتة لمن يختلفون معهم فكريا وسياسيا وايديولوجيا، وهي في ثقافة مشوهة وزائفة تحقن صاحبها برضا الحقيقة المطلقة الزائفة من جانب، وبحقد وكراهية واقعية وحقيقية للآخر المختلف معه من جانب آخر، وبما تبيح لصاحبها استباحة الآخر اجتماعيا واعلاميا وسياسيا وفكريا، وصولا الى الاخطر، وهو استباحة روحه ودمه.
لا يناقش احد في حقنا بالخلاف والتباين في الآراء، فهذه سنة الحياة وطبيعة الأمور، بل ولا نناقش بحق الجميع بالتقاضي واللجوء الى القضاء لفض النزاعات او الخلافات، حتى في القضايا المثيرة للجدل الفكري والسياسي، لكن الكريه والمخيف محاولات البعض جرنا الى مساحات التكفير والتخوين واستباحة المخالفين والمعارضين لوجهات نظرنا، او فرض البعض نفسه قيّما على القيم والدين والوطن والمجتمع، رافضا الاعتراف بتنوعه وتنافس مدارسه الفكرية والسياسية والثقافية.
بعيدا عن قضية الكاتب المرحوم ناهض حتر، التي كان يحاكم بدعواها امام القضاء، فإن الاجواء العامة التي عكستها وتعكسها حالة الجدل العام والاستقطابات الواضحة حول قضية المناهج والكتب المدرسية خلال الاسابيع الماضية، بل وحتى منذ ما قبل ذلك بكثير، كانت وما تزال تؤشر الى انحدار مستوى النقاشات الوطنية والعامة في مجتمعنا الى مساحات وانزلاقات خطيرة، حيث تدق طبول الحرب على مواقع التواصل الاجتماعي وفي "أماكن" أخرى تكفّر كل من "تجرأ" على تأييد تعديلات المناهج والكتب، بدعوى زائفة ومتهافتة أن هذه التعديلات تعدت على الدين وانتزعت الآيات القرانية الكريمة والاحاديث الشريفة من الكتب، وهو كذب صراح وتضليل خطير.
هل يمكن مؤاخذة العوام او الغوغاء الذين لا يقرأون أو غير معنيين بالقراءة والاطلاع على ما تم من تعديلات للمناهج والكتب، او ما سطر من مقالات حاولت جر النقاش الى مساحات العقلانية والعلمية؟! قد لا يؤاخذهم احد، فربما كانت هذه طبيعة بعض المجاميع البشرية غير المنظمة في قضايا حساسة دينيا او ثقافيا او عرقيا، لكن الكارثة والمشكلة الاخطر هنا في النخب المثقفة والمسيسة والحزبية والنقابية، واليوم النيابية ايضا، التي لا تتقي الله في وطنها وناسها بالضخ غير المسؤول لحطب الكراهية والتحريض على المخالفين والحاملين لوجهات نظر اخرى، سواء تجاه المناهج او حتى في الانتخابات الاخيرة، او في الموقف من ازمات الاقليم الملتهبة.
النخب الثقافية والسياسية والنقابية والحزبية تتحمل المسؤولية الاساسية اليوم عن انحدار الخطاب والنقاش الوطني الى مساحات الكراهية والتحريض والغوغائية. بمثل هذه الخطابات التي لا تعترف بالتنوع ولا بالخلاف والتباين في الاراء والمواقف، نصل الى مثل هذا اليوم الاسود، الذي يغتال فيه كاتب سياسي امام رمز العدالة والقانون في بلدنا.
لن ندعو الى "مكارثية" ولا الى حملة قمع فكرية وسياسية، لن تدفعنا الجريمة النكراء الى طلب اعلان الاحكام العرفية وجر كل صاحب خطاب تحريضي على مواقع التواصل الاجتماعي الى السجن والقضاء، لكننا ندعو، ونستحلف بالله من يقدمون انفسهم قادة نقابات واحزاب ومجتمع وعلماء ورجال دين ومثقفين واعلاميين ان يتقوا الله فينا وفي انفسهم ووطنهم ومجتمعهم، والتصدي من مواقعهم الى اطلاق احكام التكفير والتخوين وحروب الكراهية والتحريض، التي تسمم مجالسنا وفضاءنا الالكتروني والعديد من "الاماكن" الاخرى!