من يتذكر ساعي البريد!

 

من يتذكر مغلفات البريد التي كانت أطرافها ملونة بمقاطع صغيرة مائلة من الأزرق والأحمر، والغطاء المثلث الشكل الذي نبلله بطرف اللسان ثم نلصقه ونضغط عليه بقبضة اليد!

اضافة اعلان

زمان؛ حين كانت الهيبة للقلم والورق المُسطّر، كان الناس يجلسون ساعات طويلة يدبجون الرسائل، ويملأونها بذوب عواطفهم وأشواقهم، وكانت الرسائل المكتوبة غالبا بالحبر الأزرق (بسبب التشاؤم الشعبي المتوارث من اللون الأحمر) تحتاج على الأقل لـ (طبق ورق) ينزع من دفتر تلميذ من العائلة!

وتطوى الرسالة جيدا ثم تدس بين أوراقها صورة مولود جديدٍ لم يره المسافر، أو صورة بالمريول لطفلته التي التحقت بالمدرسة في أعوام سفره!

وينهمك فتى أو فتاة (بتخطيط) العنوان على المغلف، ثم يبلل أكبر الجالسين من ريقه طابعا أو طابعين ويدقهما دقا شديدا بباطن كفه على المغلف، ويضيف بخطه متذاكيا عبارة على الظرف (مع الشكر لساعي البريد)!

الرسائل حين كان لها معنى حميم وعائلي ومناسبة لأن تلتمّ العائلة كلها حول الولد الذي وقع عليه الاختيار ليقرأ بصوت متهدج رسالة الأخ المغترب في الخليج والذي تقاطعه الأم اكثر من مرة ليعيد مقطعا لم تسمعه جيدا أو أحبّته ورغبت ان تسمعه ثانية!

كانت الرسالة تنقسم "بعد البسملة والصلاة على النبي" الى مقدمة عامة تتحدث عن الشوق والتحيات والخير الذي يعيش فيه المرسل قبل أن يستدرك متحسراً "ولا ينقصنا إلا مشاهدتكم والتحدث اليكم"! ثم تنتقل الى اسئلة الاطمئنان: عن صحة الوالد، مع رجاء بأن تكون الإجابة صادقة، وعن الاخت الوسطى، هل أنجبت وصارت أماً حقاً؟ (وهنا تدمع عينا الاخت التي بالمصادفة كانت في زيارة لأهلها في ذلك النهار)، وعن اخبار الجيران؛ دون أن يجرؤ بالسؤال مباشرة عن ابنتهم.

ولا ينسى الأخ المغترب أن يسأل باهتمام عن «السكري» عند الأم وعن التوجيهي عند الأخ وعن «حَبّ الشباب» في وجه الأخت، وعن الجيران والأقارب والأعمام والخالات، ثم يطلب بخجل إبلاغ ابن عمه «فتحي» انه لم يستطع بعد أن يدبر له فرصة عمل مناسبة، طالبا اليه بحكمة مفتعلة أن يؤمن بالنصيب والمكتوب والقدر وقسمته في الحياة...الخ.

وتنتقل الرسالة بعد ذلك الى جزء حيوي آخر، يخاطب فيه الأم بأنه سيفكر باقتراحها بخصوص ابنة خالته، وانه سيحاول الحضور هذا الصيف ليراها.

وفي ذيل الرسالة، دائما ما تكون كلمة "ملحوظة" وبعدها نقطتان فوق بعضهما وتحتها خطّان، واحيانا يكون الابن قد تعمد كتابتها باللون الاحمر لإشعار الاهل بأهميتها، رغم أنها غالباً ما تتعلق بحاجته اللحوحة لكيلو جبنة بيضاء، او ملوخية ناشفة، او ان ترسل له صورة اخته مع طفلها الجديد (وهنا تضطر الاخت ان تخرج بابنها للاستوديو وهي في مرحلة النفاس ويصاب بلفحة هوا فيشتمها زوجها هي وكل أهلها، وتحديدا اخوها اللي قاعد هناك رجليه بمي باردة، وبيتأمّر علينا، ومش شايفين منّو شي، ويطردها الى بيت اهلها.. الخ.. الخ).

كانت للرسائل طقوس جميلة، وكانت تستغرق اسبوعين لتصل، فيبدأ المرسل بعدها يعدّ الايام ليتلقى الرد؛ على اعتبار ان المتلقي كتب رده وارسله للبريد ذات اليوم.

وغالبا ما كان الأهل يمرون يوميا على الدكان او معرض الغسالات، ليسألوا ان كانت قد وصلتهم اي رسالة، البعض الأكثر رقيّا او أعلى درجة اجتماعية كان عنوانه على الصيدلية، اما الطبقة المحظوظة فكانت لها صناديق بريد، تلوّح بمفاتيحها الصغيرة امام الناس.

وفي الاعياد كانت تزدهر مبيعات "كروت المعايدة"، تلك البطاقات الكرتونية التي تحمل صورا مختلفة، منها اللامع والفسفوري والتي فيها موسيقى او تصدر رائحة وردية عند حكّها، (أتذكر ان والدي ارسل لي قبل 24 عاما بطاقة عليها صورة محمود ياسين واقفا ببدلة وربطة عنق في غابة من الاشجار).

الآن اختفت تلك الايام والنهارات المليئة بالحيوية، تلك الرسائل التي تكتظ مغلفاتها بالعواطف النبيلة وحرارة القبلات من "المخلص لكم"،

فلا أحد يشعر الآن بمتعة تلقي رسالة من قريب غائب لأن فكرة الغياب نفسها اندثرت وأي شخص مهما كان بعيدا فهو بمتناول "الموبايل"، وأي شخص تفتقده سرعان ما تجده قابعا في "صندوق الرسائل الواردة"، أو جالساً ينتظرك في حجرة "الايميل"!