من يسامح؟

من يسامح؟
للسماح سلطة تشبه السيف الجاثم على رقبة المظلومين! ليس سهلا أبدا على من تجرع مرار الظلم والغبن، أن يقف أمام مواعظ ونصح المنظرين في القيم والأخلاق، ويهز برأسه موافقا بل ومقتنعا بكل كلمة يسمعها، ثم يأخذ قراره بسهولة وسلاسة، فيسامح.اضافة اعلان
كثيرة هي القصص التي تظهر خصوصا في المواسم الروحانية الخالصة، كشهر رمضان المبارك مثلا، تتحدث عن تجارب جد قاسية مرّ بها أصحابها من المظلومين المقهورين، تتصارع في وجدانهم قوتا العقل والقلب، بالصوت العالي والصور المتحركة، تداهم ذاكرتهم تارة، وتستولي على قدرتهم تارة أخرى، فيقعون فريسة ما بين الرغبة الشديدة في رد الكيد بالكيد، وبين القدرة على العفو.
أخ أكل حق أخيه الميت، وحرم أبناءه الأيتام من ميراثهم الشرعي بالسطو والاحتيال والالتفاف على القانون، فجربوا ضنك العيش وقسوة الحياة، بسبب قلة ذات اليد، وهم أصحاب حق بما كتب الله لهم. يأتي عليه يوم ويقع طريح الفراش فيطلب السماح من أبناء أخيه، واعدا إياهم بإرجاع حقهم المسلوب منهم عنوة، قبل أن يلقى وجه ربه. هذا الإنسان الذي لم يحسب حسابا للأيام الظلماء التي مرت على الأطفال جوعا وبردا وتشردا وتهربا من المدارس، لتوفير لقمة العيش، يعتقد أن دموعه الساخنة على وسادة المرض، تستدعي الرحمة والتسامح مع وضعه الحالي. لكم صعب على رجال اليوم أن يأخذوا قرارا شجاعا بمحو الماضي الأليم، وفتح آخر صفحة تجمعهم من عمهم الظالم المستبد.
امرأة عاشت الأمرين من زوجها وأهله، حين ضموها إلى أسرتهم أيام شبابها كخادمة، تراعي الصغير فيهم قبل الكبير، وتتلقى كل أنواع التعنيف الجسدي والنفسي منهم جميعا، دون اعتبار لحرمة أو حق إنساني بسيط. احتملت الإهانة أمام أطفالها، والحرمان المادي والعاطفي المفروض على زوجها من باب الرحمة و السكينة، والتي هي فلسفة الزواج الأولى و الأخيرة. تحملت الضرب والتنكيل والشتائم ممن كان يفترض أن يكونوا أهلها و سقف بيتها الآمن، حتى غدت شبه إنسانة تمشي على قدمين، بعد أن أصابها الوهن والمرض و الذبول. يطلبون منها اليوم أن تسامح وتمسح الماضي كله بممحاة سحرية، لأن الدنيا دارت على كل من ظلمها واحدا واحدا، أذاقته من الكأس نفسه في أعز الناس لديه، أو لديها، فكان لا بد من فتح الدفاتر القديمة والبحث عن طريق للنجاة من غضب الله ودَيْن الأيام الثقيل. هل سيلومها أحد لو أنها لم تسامح؟ هل سيتجرأ دعاة فلسفة الطاقات الإيجابية لو أنها لم تستطع ؟ والقصص المثيلة كثيرة وعجيبة وحزينة.
ماذا بمقدور المظلوم أن يفعل حين يجد نفسه فجأة و كأنه المسؤول عن تعديل بوصلة الكون؟ حين يحشره المتبرعون الأفاضل في زاوية التراحم و المحبة و السلام و يسلمونه مفتاح الفرج، و كأن الدوائر التي دارت عليه لا تكفي لتعتصر روحه و ذكرياته، فيصبح فوق الظلم و العجز و مرار العمر الذي مضى، حارسا على بوابة الصفح الجميل!
للسماح سلطة تحتاج قوة جبارة خارقة مهلكة، تتكسر على عتباتها رغبات الانتقام أو التشفي أو حتى المطالبة بالعدالة على الأرض. فمن يسامح؟