مهرجان جرش.. شيء من الطبيعية!

لا ينتهي الجدل المحلي حول مهرجان جرش، والأنشطة الفنية-الثقافية الشبيهة. هناك الذين يرون أنه ليس لهذه الأنشطة محل في المناخات القاتمة التي تلف المنطقة. وهناك آخرون يذهبون أبعد؛ إلى انتقاد الفنون جملة وتفصيلاً، باعتبارها فائضة -بل و"ضارة"- على أساس أن الفن عرَض "غير أخلاقي"، أو محرم في عقيدة أهل المنطقة.اضافة اعلان
لكن الأردن الطامح إلى الحداثة والانسجام مع السياق العالمي، اختار أن يكون الفن والثقافة جزءاً بنيوياً من شخصيته. ويتطلع المتنورون من أهله إلى المزيد من ترسيخ هذا الاتجاه، كأداة لتجاوز المصاعب وخلق شعب مستنير وعصري. وأتصور أن فكرة مهرجان جرش قصدت وضع الأردن بين الأمم التي تعترف بفضل الثقافة والفنون في صناعة هوياتها الوطنية، وتريد أن تُعرف بأنها حاضنة لهذا الاتجاه التقدمي. كما أراد مقترحو المهرجان الإفادة مما تصنعه الأحداث الكبيرة لبلدانها من تشجيع للسياحة، وتعزيز لحضور الشخصية الوطنية الدولي، وإفادة المناطق التي تحتضن الحدث بما يمكن.
على مدار السنوات، أصبح مهرجان جرش للثقافة والفنون إحدى علامات البلد المهمة. وعلى سبيل المثال، ضمت برامج المسابقات الرمضانية هذا العام سؤالاً على الأغلب عن مهرجان جرش وأين يُقام، تماماً مثلما يُسأل عن البترا وأين تقع. وأصبحت المعرفة عن المهرجان جزءاً من ثقافة العرب ومعرفتهم عن محيطهم. وبذلك، يكون إلغاء المهرجان، كما يطالب البعض، أشبه بالتخلي عن جزء من سِمة الأردن التي أصبح يُعرف بها في العقود الأخيرة.
لا أحد ينكر أن المناخات العامة تؤثر على المزاج الشخصي، وأن العلاقة حتمية بين الأوضاع السياسية والاقتصادية وبين إقبال الناس على نتاجات الفن والثقافة. لكن الانصراف عن استهلاك الثقافة هو في الأساس عرَض للاعتلال وليس الصحة. والأصل في الأشياء أن تنهض النفسية العامة جميعاً، بحيث يتجسد الإقبال على الحياة في الحماس إلى العمل الإنتاجي، بقدر ما هو في ارتياد المعارض والمسارح ودور السينما والندوات الثقافية والشعرية. وستكون أكبر الخطايا هي الاعتذار بتراجع الأحوال لإعدام هذه العلامات الحيوية للأمة تحت أي ظرف. ولعل الصور الأوضح لما يطالب به المعترضون، هي ما صنعته "طالبان" الأفغانية ويصنعها "داعش" الآن -مدن سوداء خالية من الموسيقى والألوان والشعر والرواية والمسرح، وكل ما قد يبهج الروح ويخفف وحشة العالَم، لصالح التفكير في الموت وما بعده، أو حتى طلبه للنفس والآخرين.
الاستمرار في إقامة مهرجانات الأردن، حيث أمكن ذلك وإلى أقصى حد، هو طريقة لإعلان الأردن أن الحياة فيه تسير طبيعية، على الرغم من كل الميل الراهن إلى اللاطبيعية. وسوف يماثل التخلي عن المهرجان الإعلان عن الاستسلام للاضطراب والتراجع عن العادية؛ مثل إغلاق الأسواق الكبيرة أو الأماكن العامة تحت سياط خوف قاهر. وعادة ما تتوقف المهرجانات الكبيرة التي تشكل علامات للدول، فقط إذا أصبحت الأمة قيد الانهيار. وعلى سبيل المثال، وفيما يدعو إلى منتهى الأسف، كانت سورية الشقيقة تقيم أربعة وخمسين مهرجاناً ثقافياً وفنياً، توقفت الآن نتيجة لتوقف الحياة وتقدم الموت. 
كانت أطروحة أنصار الثقافة والتقدم في البلد أن تراجع الأداء الثقافي والفني في الأردن هو سبب ونتيجة لعلة كامنة في الأداء العام. فحيث تنجح الإدارة السياسية، يزدهر الاقتصاد، وتنتعش الروح الجمعية، وتتعزز العلاقة بين الناس والثقافة والفن والابتكار والجمال. ولا شك في أن الشعب الذي يرى في النتاجات الثقافية والفنية ضرورة، سيكون أقدر على العيش في العالم العصري المتنوع المليء بمصادر المعرفة وغذاء الروح. ولا يمكن أن يزعم عاقل أن الشعوب التي ترتاد المسارح ودور الأوبرا والسينما، وتقرأ الكتب في الحافلات والقطارات، هي شعوب منحلة وفارغة وعاطلة من الجديّة، وهي التي تغلبنا في كل شيء، وتبيعنا كل شيء تقريباً.
الادعاء بأننا أمة مختلفة، أكثر جدية وأخلاقية -وخَلقاً- ولدينا ما هو أكثر جدوى من الشعر والموسيقى والأدب، يُكشف عن تهافته بسفك الدم الهائل الجاري اليوم، تحت عنوان استعادة هذه "الأخلاقية". وفي حين تنطفئ الحياة والحيوية من حولنا بفعل القوى الظلامية، تقول المهرجانات الأردنية المضيئة إن الأردن هو نفسه، وإنه مكان نادر تسير الحياة فيه طبيعية وآملة، برغم كل ما يدعو إلى اللاطبيعية.