مهزلة الرّقابة التي يجب أن تنتهي

 

تشهد حرّيّة النّشر في الأردن تراجُعاً ملحوظاً في السّنوات الأخيرة، خاصّةً فيما يتعلّق بطباعة وتداول الكتب الإبداعيّة من دواوين شعرية وروايات. في الوقت نفسه نجد هناك انفتاحاً عظيما على هذا الصّعيد في الدّول العربية المجاورة، كالسّعوديّة على سبيل المثال، فالكتاب الذي يتم منعه في الأردن توزّعه دور النّشر والمكتبات السّعوديّة.

اضافة اعلان

أنا هنا لست بصدد تجميل الصّورة عمّا هي عليه في البلدان العربية الأخرى، ففي مصر مثلاً، تمّ سحب ترخيص مجلّة إبداع الأدبيّة لنشرها قصيدة الشّاعر المعروف حلمي سالم (شرفة ليلى مراد)، طبعاً جاء هذا السّحب بعد مسلسل المحاكمة الذي شهدته القصيدة والشّاعر والذي تدخّل فيه الأزهر ليبرز كطرف رئيس في مقارعة الشّعر!

لقد كان لقرار الرّقابة في الأردن بمنع توزيع ديوان الشّاعر الصّديق طاهر رياض (ينطق عن الهوى) وقع الصّاعقة على رأسي ورؤوس الشّعراء والكتّاب الأردنيين، وقد تألمنا جميعاً حين علمنا مؤخّراً أنّ الشّاعر اضطرّ للسّفر إلى الشّام من أجل إقامة حفل توقيع لهذا الدّيوان بعيداً عن جمهوره ومحبّيه، فقد كان يمكن أن يقام هذا الحفل هنا في عمّان حيث ولد الشّاعر وأقام وكتب قصائده.

شيء يدعو إلى السّخرية المُرّة، شيء يشبه الفجيعة، أن ينهمك الشّاعر أعواماً عديدة، ويسهر الليالي الطّوال في نسج الشّعر، والقبض على أطيافه الخفيّة، ثمّ يفاجأ في لحظة ما -قد تكون ثانية لا غير- أنّ كلّ ما أنجزته يداه يمكن له أن يتبدّد بفعل قلم الرّقيب الذي أصبح بمثابة طاغية العصر! من أنت أيّها الرّقيب المبجّل؟ من أنت لتمنع الشّعر؟؟ طبعاً هناك ما هو أقسى وأمرّ، وذلك حين تتمّ جرجرة الشّاعر في المحاكم فيما بعد وإلصاق التّهم الكاذبة به، وتصويره أمام النّاس بهذه الصّورة المارقة!

لقد تطوّرت قضيّة مصادرة دواوين الشّعر والرّوايات في الأردن، ومحاكمة المبدعين والتّضييق عليهم حتى أصبحت علامة فارقة لنا دون الآخرين. لقد أصبحت قصصنا على كلّ لسان. كثيراً ما يتمّ طرح السّؤال حول غياب الأثر الإبداعي الأردني على المستوى العربي، إذا ما قورنت الأردن بغيرها من البلدان العربية، وفي هذا المجال نقول لدينا في الأردن حركة إبداعيّة ناشطة، كما أنّ لدينا عدداً كبيراً من الكتّاب المهمّين، غير أنّ كلّ ذلك الحراك محكوم في النّهاية بعدد من القوانين البائدة التي تقوّض الفعل الثّقافي من أساسه، وعلى رأس تلك القوانين قانون المطبوعات والنّشر الذي يمنع الكتاب ويصادره.

لا يُعقل وبأيّ حال من الأحوال أن يظلّ قلم الرّقيب متربّصاً بالمبدعين، خاصّةً وأنّ الكتابة الإبداعيّة قائمة على المجاز، وأنّ كلّ ما يدخل النّص من أفكار وصور وأخيلة متّصل بعمليّة التّأويل التي تختلف من قارئ إلى آخر، ذلك أنّ الكلام الذي في النّصّ لا يُقصَد لذاته. هذا من جهة، ومن جهة أخرى ثمّة اجتياح عارم، يمكن أن نسمّيه تسونامي المعلومة الذي يهبّ علينا من مختلف الجهات ويضع بين أيدينا كلّ شيء، بما في ذلك النّصوص التي يمنعها الرّقيب.

ينبغي أن تنتهي مهزلة الرّقابة بشكل كامل، وأن تتمّ عمليّة طباعة وترويج الكتاب (الإبداعي وغير الإبداعي) دون أيّ عوائق، وإذا كان هناك ما يمسّ قناعاتنا في هذا الكتاب أو ذاك، فلنتحاور فيه من خلال النّقاش الذي يمكن أن يكون هادئاً أو صاخباً. ينبغي أن نكون ديمقراطيين في قبول الرّأي الآخر، وإذا كان لا بدّ لنا من نقد نوجّهه فلنكتب وجهة نظرنا ولننشرها على الملأ. ينبغي أن نغلق هذا الملف، ملف الرّقابة الذي هدرنا فيه وقتنا وجهدنا، وأن نتفرّغ بشكل حقيقي لتطوير بنيتنا الثّقافيّة بما يتلاءم ومتطلّبات العصر.

[email protected]