مواطنون مع وقف التنفيذ!

أرجح، والعلم عند الله، أن حكوماتنا قد جمدت تنفيذ أحكام الإعدام الصادرة بحق المحكومين بها، منذ سنوات، بدليل، أننا لم نعد نسمع أو نقرأ عن تنفيذ أي حكم إعدام، مثلما كانت عليه الحال، في السابق. وكل ما بقي من سيرة الإعدام، هو ما نقرؤه، في صحفنا، على نحو شبه أسبوعي أو شهري، عن صدور حكم جديد بالإعدام ضد أحدهم، أما التنفيذ فمعطل تماما.

والحال أن هذا الأمر استوقفني، كثيرا، في الفترة الأخيرة، وتساءلت، مطولا عن الأسباب، التي دفعت بالحكومات، إلى وقف تنفيذ، تلك الأحكام، بصرف النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا، معها.

رجحت، في البداية، أن يكون السبب عائدا إلى عطب ما أصاب آلات الشنق، وأن الحكومات، بصدد استيراد آلات أحدث، منها، لكن بعد أن طالت سنوات انتظار المحكومين، أبعدت هذا الاحتمال من بالي، خصوصا، وأن آلات الشنق في العالم العربي "على كف من يشيل"، وما أسهل استعارتها وتبادلها، وتسهيل إجراءات دخولها، والتي لا يضاهيها غير تسهيلات مرور المواطنين العرب من دولة عربية إلى أخرى!!

ثم أعدت السبب إلى "جرعة حنان" فائضة سرت، بغتة، في شرايين الحكومات، جعلتها تحجم عن تنفيذ أحكام الإعدام، التي من المرجح أن تصدم مشاهدها عذوبة الحكومات ورومانسيتها، لكنني أقصيت هذا الاحتمال إلى كوكب المريخ، لأنني موقن تمام التيقن، أن حكوماتنا لم تقع في غرام المواطنين، حتى الآن، على الأقل.

ثم، توصلت، بعد أن أعملت ظني الماكر قليلا، أن السبب مرتبط بغيره من الأسباب، وأعني بذلك، المشهد الذي تحاول حكوماتنا، منذ فترة أن تظهر فيه، لتحشر صورتها، حشرا، في متطلبات المشهد العام المتصل بعالم الحداثة للدول الأكثر تقدما، حتى من دون امتلاك المقومات الأساسية للظهور بذلك المشهد، (كساع إلى الهيجا بغير سلاح).

وللتوضيح، أكثر، فإن حكوماتنا باتت تحاول، على ما يبدو، الاستجابة لمتطلبات منظمات حقوق الإنسان العالمية، التي ترفض فكرة الإعدام، جملة وتفصيلا، بوصفها وسيلة غير ناجعة من أساليب التقويم، وبوصفها تندرج تحت بنود المس بكرامة الإنسان واحترامه.

وفي المقابل، فإن حكوماتنا مصابة، على ما يبدو، بنوع من الانفصام، بين محاولة الاستجابة لتلك المتطلبات الدولية، وبين الضغط الداخلي المجتمعي الذي لم يقبل بعد فكرة إلغاء تلك العقوبة، انطلاقا من عدة اعتبارات، دينية، وقبلية، وغيرها. ولذا، وفي سعيها لإيجاد نوع من التوازن، فقد ارتأت حكوماتنا، أن تبقي على تلك العقوبة قضائيا، مع تجميدها تنفيذيا، سعيا لإرضاء الطرفين، معا... "معدمون" مع وقف التنفيذ!

ويذكرني هذا الانفصام الحكومي، بانفصام آخر، ما نزال نرزح تحت وطأته، وأعني به، أيضا، "الديكور" الديمقراطي الذي منّت علينا حكوماتنا به منذ أكثر من عقدين، وظننا آنذاك، أيضا، أن حكوماتنا جادة فعلا في فتح أبواب الانفراج الديمقراطي، وإلغاء عقود الكبت إلى الأبد، لكننا سرعان ما اكتشفنا أن هذا الديكور، الذي "طنطنت" له حكوماتنا وخزّقت آذاننا به بانتظار "الحَلق"، لم يكن إلا نوعا من ذرّ الغبار في أعين العالم الحرّ، وكذلك محاولة من الحكومة لحشر صورتها في مشهد ذلك العالم ـ ولا أدري لماذا يخطر في بالي هنا، تحديدا، مشهد رجل يحاول أن يمد رأسه، ليقحم نفسه في كادر عدسة تلفزيونية، تصور مشهدا خلاباً، لا لشيء سوى ليقول لأبنائه بأنه سيظهر مساء ذلك اليوم على التلفزيون ليشاهدوه!

أما النتيجة الماثلة بعد تلك العقود الزاخرة بـ "الحرية" فلم تزل تتمخض، حتى اللحظة، عن مواطنين أحرار، مع وقف التنفيذ، فلا مشاركة شعبية حقيقية في صنع القرار، ولا حرية تعبير مكتملة يأمن صاحبها، إذا تورط ومارسها، على نفسه ورزقه وعياله، وأما قوائم الممنوعات فحدث ولا حرج.

نعم هو انفصام حكومي، بين الداخل والخارج، بين الانسجام مع تاريخ من إقصاء المواطن على رفوف التهميش، وبين إقحامه في مشهد لا يمتلك أدنى مقومات الظهور فيه، لأنه، باختصار، لم يزل مواطنا في مجتمع مدني، مع وقف التنفيذ، ومواطنا حداثيا، مع وقف التنفيذ، ومواطنا ديمقراطيا، مع وقف التنفيذ، ومواطنا محترما، مع وقف التنفيذ.

اضافة اعلان

وفي المحصلة، هو ليس أكثر من مواطن، مع وقف التنفيذ!

[email protected]