موت الأخطاء الطبية

خلال أيام قليلة سقط في الأردن ثلاث ضحايا في المستشفيات بسبب ما قيل إنها أخطاء طبية، وتقصير وإهمال. لو وقعت هذه الحوادث الكارثية في بلد الديمقراطية فيه راسخة لرحلت الحكومة بأكملها لأنها لم تنجح في إنقاذ أرواح الناس، فلا يوجد ما هو أسمى وأجدر من حق الحياة. ما حدث مع الأطفال (لين، غنى، عثمان) الذين توفوا في مستشفيات البشير، والأميرة رحمة، والملك المؤسس في الأيام الماضية موجع ومؤلم، ويعكس حالة الفشل والترهل في المنظومة الصحية في البلاد. قصص لين، وغنى، وعثمان التي أصبحت على كل لسان ليست سوى المأساة التي عُرفت وكُشفت، وربما هناك مئات إن لم يكن آلاف الضحايا رحلوا نتيجة أخطاء طبية، وإهمال وتقصير، ولم يسمع بهم أحد، وهذا هو الأخطر، فآليات المساءلة بسبب الأخطاء الطبية ضعيفة، إن لم تكن غائبة. قبل أشهر صُدم الأردنيون بحادثة مستشفى السلط، واستقال وزير الصحة د. نذير عبيدات متحملا المسؤولية السياسية والأخلاقية، ولكن استقالته لم تمنع تكرار الأخطاء، والسؤال الذي يبرز؛ هل المطلوب أن يُصبح وزراء الصحة "شماعة" الأخطاء، وأكباش فداء يتم التضحية بهم على مذبح الحكومات، بدل إيجاد حلول جذرية للأزمات؟ الحق في الصحة يتقدم الحقوق مثل الحق في الحياة والتعليم، وفي جائحة كورونا تعرض هذا الحق وما يزال لاختبار نادر، وتبدى أهمية أن تكون المنظومة الصحية قادرة على مواجهة التحديات والمخاطر، ورغم جسامة وخطورة جائحة كورونا، فإن الحكومة لم تجعل من القطاع الصحي أولوية، وعوضا عن أن زيادة موازنة وزارة الصحة تراجعت بحدود 50 مليون دينار، ولم تقدم خطة لإنقاذ الخدمات الصحية حتى بعد أزمة مستشفى السلط، وانصبت الجهود خلال العامين على التعامل مع جائحة كورونا. حين تسمع أطباء على رأس عملهم يصفون الواقع الصعب والمزري للخدمات الطبية في المستشفيات والمراكز الصحية تشعر بحجم الخطر الذي يحدق بالبلاد والعباد، وتسأل بحسرة ما هو الحل؟ وحين يكتب طبيب باسمه الصريح عن تجربته في المستشفى الذي يطلقون عليه وصف "المسلخ"، ويقول على صفحته على فيسبوك "لما بيدخلك طفل مصري أو أردني وما معه تأمين وبحاجة لدخول لعمل جراحي، ولازم يروح يعمل ملف دخول، ويدفع تأمين للمحاسبة، وتموت من القهر وانت بتتفرج عليه بيحمل طفله بين ايديه لأنه ما معه يدفع تأمين الدخول، وبتتقطع من جواتك، ومش قادر تعمل شيء إلا الحزن، حزن بتنساه بعد خمس دقايق لتحزن على حالة ثانية مرمية لأنه ما بتوفر سرير لها". ويكمل د.مصطفى معايطة وصف المعاناة "طبيب واحد على الشفت الواحد بيشوف اكثر من 300 مريض، وبشوف عشرة مرضى مع بعض". هذا غيض من فيض كتبه د. المعايطة يستعرض فيه رحلة درب الآلام للمرضى والأطباء على حد سواء، فالمريض مظلوم، والطبيب او الممرض الذي يجري أكثر من 30 عملية طارئة، وكما يقول دون أن يتمكنوا من تنظيف دماء المرضى الذين سبقوهم بالتأكيد مظلومون كذلك، وحقوقهم ليست مصانة. مساءلة الأطباء الذين يخطئون في التشخيص، أو يقصرون مطلوبة، ولا يمكن التهاون بها، وتطبيق قانون المساءلة الطبية الموجود في غرفة الإنعاش ضروري، والإحالة للقضاء لتطبيق العدالة، وإنصاف المتضررين أمر لا مفر منه، ولكن للأسف لن يحل وحده المشكلة، ولن تنهض الخدمات الطبية به فقط. الخدمات الطبية في بلادنا تئن وتتراجع، وقبل عقود كنا نتغنى بها مثل التعليم أيضا، وما تغمض الدولة العين عنه، وتدفن رأسها في الرمال أننا قبل عقود كنا نبتعث الأطباء لأفضل الجامعات في العالم، ولأفضل وأهم التخصصات، وكانت مستشفياتنا نموذجا متقدما للتميز، وحالنا الآن محزن، فالمستشفيات سواء الحكومية، أو التابعة للخدمات الطبية الملكية، أو الجامعات يُرثى لها، والأطباء والجهاز التمريضي والفني ينتظرون الفرصة لترك الوظيفة لعلهم ينصفون بعد سنوات من الإهمال. من حق وزير الصحة د. فراس الهواري ألا يستقيل، فهو أو غيره لا يملكون عصا سحرية لتغيير الواقع الصعب بين ليلة وضحاها، ثم إن تبديل الوزراء في لعبة سياسية لامتصاص الغضب الشعبي لن يغير الحال، والمطلوب خريطة طريق معلنة لإنقاذ الخدمات الصحية، تحظى بإرادة سياسية للتنفيذ، وترصد لها الأموال، ويحدد لها إطار زمني للإنجاز، ومؤشرات قياس لتقييم الأثر. إذا كان مطلوبا "نسف" المستشفيات وبناء غيرها فليكن، ولنستدن من أجلها فحياة الناس تستحق، على أن يسبق ذلك إقرار تأمين صحي للجميع يحفظ كرامتهم، فهذا حق، وليس منة من الدولة، والضمان الاجتماعي قدم رؤية في هذا الاتجاه، وبالتأكيد أن تضيء شمعة خير من أن تلعن الظلام.اضافة اعلان