موقفنا المتناقض من حكم القانون..!

ضج كثير من مواطنينا، في الفترة الأخيرة، بالاحتجاج على إجراءات دائرة السير المشددة الجديدة. ومرة أخرى، تحدث البعض عن "الجباية" من جيب المواطن. لكن يمكن الحديث عن الجباية وما شابه في كل شيء، إلا انتهاكات قواعد السير وأشباهها من المخالفات التي تهدد أرواح الناس وسلامتهم. وفي مثل هذه المسائل الحساسة، يجب أن تكون القاعدة: التزم بالقواعد والقانون ولا تُخالف، ولن يكون عليك أن تدفع أي شيء أو تتعرض لأي مساءلة (اللهم إلا في حالة المواطنين الذين يقولون إنهم يدفعون مخالفات مسجلة في أماكن لم يرتادوها مثلاً).اضافة اعلان
الملفت في هذا التوجه وأشباهه، هو أن المرء يضج بالشكوى ويطالب بتطبيق قانون السير بأقصى درجات الشدة، عندما يعاني من التوتر اليومي الذي تسببه فوضى الطرق. وهناك ما هو أكثر من مجرد الشكوى بالتأكيد، عندما يتعرض المواطن لحادث يضر به أو يزهق روح واحد من أحبائه بسبب رعونة سائق لا يحترم قاعدة ولا قانوناً. وتعرض هذه المواقف ازدواجية محيرة إزاء تطبيق حكم القانون، والتي لا تنتج غير الفوضى والضرر بالأفراد أنفسهم.
تظهر هذه الازدواجية بكثرة في سلوكنا الاجتماعي، بحيث أصبحت ثقافة شائعة. فبدرجة كبيرة، يساهم الأفراد أنفسهم في تعزيز الفساد عندما يلجأون إلى المحسوبية والواسطة في تعاملاتهم، بينما يستنكرونها عندما يستخدمها غيرهم باعتبارها سبباً للضرر الاجتماعي. وفي السلاح أيضاً، تعلو الانتقادات لواقع استخدام الأسلحة التي توقع ضحايا وترعب الأطفال في الأعراس والمناسبات -بل وتستخدم في المشاجرات الجماعية وحسم الجدالات الفردية. ومع ذلك، يعترض الذين يمتلكون أسلحة إذا طُلب إليهم التخلي عنها، ودائماً يكون الذين يسيئون استخدامها أناس آخرون. من هم الآخرون؟
من تجليات هذه الثقافة أيضاً، ميل الكثيرين إلى أخذ حقوقهم بأيديهم في معزل عن القانون الذي يتعاملون معه بعدم احترام واكثراث كبير كما يبدو. ولذلك نسمع كثيراً عن قتل الشرف أو القتل بدواعي الثأر. وفي هذه الحالات، تكون هناك قضايا منظورة أمام القضاء الرسمي، وينبغي أن تصدر فيها أحكام تناسب الجرم. لكن الناس يتصرفون وفق أهوائهم وعواطفهم فيتضاعف الضرر. وبدلاً من اقتصار الكارثة في حادثة قتل على القاتل والمغدور، يتضاعف عدد الضحايا من أفراد العائلتين المعنيتين من القتلى والمسجونين، وأبنائهم وبيوتهم.
بطبيعة الحال، لا محل للدعوة إلى التسامح مع فكرة مخالفة القانون تحت أي ظرف أو ذريعة. ففي نهاية المطاف، يعني الترويج لذلك، في مخالفات السير أو السلاح أو الثأر أو أي مظهر، الاعتداء على هيبة الدولة وتعطيل أدوارها. والنتيجة الحتمية هي الفوضى الكاملة التي لا تترك أحداً في مأمن. لكن على الدولة نفسها مسؤولية تخليص مواطنيها من ثقافة ازدراء حكم القانون واعتياد مخالفته.
يبدأ ذلك بإعلاء فكرة حكم القانون وهيبتها في داخل أطر السلطة نفسها. وفي الأساس، لا يمكن الحديث عن واسطة أو محسوبية من دون تورط مسؤول وصاحب صلاحيات في الموضوع. ولا يمكن الحديث عن كثرة المخالفين للقانون من دون الحديث عن قصور في آليات تطبيق القانون وفرضه بعدالة وبلا حصانة لأحد من أي مستوى. ولا يمكن الحديث عن تبرم الناس بتطبيق القانون من دون تذرعهم بأن غيرهم يخالف ولا يُحاسب. والأهم من ذلك كله، لا يمكن الحديث عن مدى تطبيق حكم القانون واحترامه بمعزل عن العقيدة السياسية التي تتحكم بكل شيء، من التمثيل السياسي للمواطنين، إلى النشاط المدني، إلى العلاقة بين السلطات، إلى الرقابة والمحاسبة، إلى المساواة وعدمها، إلى التكوينات الاقتصادية والفرصة، وعشرات الأشياء.
في النهاية، يجب أن يكون الناس أحراراً في كل شيء، إلا الاستهتار بفكرة حكم القانون والاجتراء على تحديه. ولن يكون ازدراء الناس للقانون بأي حال طريقة للاحتجاج على سياسات لا تعجبهم، لأنهم هم المتضرر الأول والأخير من إضعاف حكم القانون، حيث يتحول المجتمع إلى غابة. ولو بدأ كل بنفسه ووضع على نفسه رقيباً أخلاقياً يحتكم إليه، فإن الناس ربما يتخلصون من الازدواجية، ويشيعون ثقافة أكرم في مجتمعهم، والذي سينعكس حتماً على سلوك البلد ككيان متكامل يحفظه احترامه لحكم القانون.