"مو طبيعي"

اليومَ، أيضاً، اكتشفتُ أنّني لستُ طبيعياً. استفقتُ متأخِّراً كما يحدثُ أحياناً عندما تهربُ إليَّ امرأةٌ من شبّاك الزوجيَّة، وتدخل منامي على أصابع عاج البيانو في قدميها الموسيقيتين. تأخَّرتُ تبعاً لذلك في الحمَّام، خمس دقائق زائدة على “حاجتي”، ولما خرجتُ واجهتني الشغّالة الآسيوية الصفراء المصابة بندوب بُنيَّةٍ جرّاء حَبِّ الشباب المتأخِّر، بحقيقة يبدو أنَّها تأخَّرت باكتشافها، وهي أنّني Unnatural. كدتُ أصارحها، أنَّ الأمر “طبيعي”، لأنَّه يحدث كلّ نصف شهر مرة تقريباً، وبذلك يكتسبُ صفة “الظاهرة”، تماماً ككسوف الشمس أو خسوف القمر.اضافة اعلان
لكنني لم أقل شيئاً. ارتدَيتُ معطفَ “الجلد الطبيعيِّ”، وخرجتُ، ويبدو أنَّني صفقت البابَ ببأس زائد درجتين على المعتاد، لكنَّ الشغالة الآسيوية هزّت رأسها بحركة درامية تفيد أن إحساسها كان صادقاً. على الإشارة الضوئية رفعتُ صوت المسجلة رقمين، ففوجئت بامرأة نكديَّة تطلُّ من شباك سيارتها، وتصرخُ معترضة على ما اعتبرته صخباً غير مؤدَّب، وكانت آخر كلماتها الزابدة أنَّ “هاد شي مو طبيعي”، كسرتُ الشرَّ في منفضة السجائر، ورفعتُ زجاج السيارة، وانطلقتُ بإيعاز اخضرار الإشارة حتى أوقفتني سيارة الشرطة؛ الرقيبُ نظر إليَّ كطبيبٍ عام، ثمَّ كتب في المخالفة أنّني تجاوزتُ السرعة الطبيعية، وحالتي العامة (وكان قد تفحّصَني من الأخمص إلى الرأس) غير طبيعية!
وما اعترضتُ حتى عندما قالت لي زميلتي الفضوليّة، إذ لاحظتْ أنّني أمسكُ رأسي بكفيَّ، كالكمّاشتين، لأحاصر صداعاً ضغطياً ينتابني عادة كلما خرجتُ من عند المدير المتصابي، إنَّ وضعي صعب للغاية، وتأمَّلتني مثل اختصاصية مستجدة في الأورام، ثمَّ أخبرتني ببرود جرّاح عريقٍ أنَّ حالتي وإن كانت غير طبيعية “بالمَرّة” إلا أنها “حميدة”، و”اللهمَّ لا اعتراض”، قلتُ لما سألني الساعي وهو يتفحصني مثل “شمّامة” عفنة ويقسم يمين طلاق بائن بأنّني “مش طبيعي اليوم”، ولا جواب لي عن سؤاله الخارج عن قواعد اللغة “مالَكْ”: سوى أن افتعلتُ ابتسام المصدوم بنبأ الـ”خبيث”!
السمّان الذي لا يكترث بـ”كشِّ” الذباب عن أنفه أقرَّ بفم دبق أنني “مو طبيعي”، ومذيعة النشرة الجوية نزلتْ عن الهواء لتخبرني أنَّ طبيعتي في غير معدّلها الطبيعيِّ، في مثل هذا الوقت من السنة، والمارة التعساء في شارع السعادة تهامسوا، وعرفتُ بالطبيعة أنَّهم ينتقدون “طبيعتي” التي تطبَّعتُ عليها قبل ثلاثين عاماً بين أحيائهم الخارجة على حدود الطبيعة، وثابر على ذلك أساتذة الدين والفيزياء والنحو، وعريف الصفِّ الطويل كالألف بلا همزة؛ كانت له مهمة محددة أوكلها إليه مربِّي الصف: أنْ لا نكون على طبيعتنا!
نعم يبدو أنَّ أمراً طرأ هذا النهار. وقبل آلاف النهارات عرفتُ أنَّ لي “طبيعة” اعتنَيْتُ بها كفتاة معروضة لـ”الخطّابات”، كنتُ أنظِّمُ عملية خروج الأنفاس من مخارج الحروف، وأضع قدح الشاي في الدائرة بمنتصف الصحن، أصفِّقُ في المناسبات الاجتماعية كما يفعلُ محافظ ناءٍ، وأتكلم كالردِّ الآلي في حالة طلب الرقم، ورقمي دائماً في داخل الخدمة حتى لو كنتُ في فترة “تشميس”، ومشيتُ كالألف المهموزة في كلِّ الظروف الجوية الاستثنائية، وصقلتُ “طبيعتي” بالتطبُّع على البلاغات الرسمية التي تقصدني تحديداً بـ”عزيزي المواطن”؛ وأضحكُ كالطبيعة بعد شتاء، فأنا رغم كلِّ حالات الطوارئ: “عزيز” و”مواطن”!
.. لكنّني اليوم، أيضاً، اكتشفت أنَّني لستُ طبيعياً، رغم أنّني انتَعلتُ حذاءً من الجلد الطبيعيِّ، وتناولتُ ثلاث وجبات خفيفة من خيرات الطبيعة، وذهبتُ إلى مركز للتقوية في ظواهر العالم الفيزيائي. “مو طبيعي” أقرُّ بذلك، وأعترفُ أخيراً، والذنبُ ليس ذنبي أنَّ الطبيعة أيضاً، لما تضجَرُ، تخلعُ طبيعَتَها!