ميرا والعنف المقدّس

يبدأ الإرهابُ لفظياً وبالمفاهيم التي تُكِنُّ العنفَ فيها، تلك التي يتعاملُ بها الأهلُ مع الطفلِ في الحياةِ (هلأ أبوك بيقتلك.. بفرّمك.. بدعس على رقبتك.. يكسّر ايديك... يقصف عمرك.. يعدمني ياك.. إلخ) وغير ذلك مما تجود به قريحة العنف اللفظي، الذي يتحوّل في معظم البيئة العربيّة إلى عنف جسدي. وإذا كنّا في هذه البيئة قد نجونا، بدرجةٍ أو بأخرى، من عقابيل هذا العنف الذي مورسَ علينا ونحنُ أطفال، فإنَّ الأجيال الراهنة ليس لها أن تنجو، ما دامت المدارسُ التي تسلَّفت وتأخونت تمارسُ نوعاً آخر من العنف وباسمِ الدين أسمّيه "العنف المقدّس"! اضافة اعلان
تلخّصُ قصةُ الطفلة (ميرا) المناهج الفعليّة التي تُدرّسُ في بعض مدارس الأردن، حكوميّةً وخاصّة، والقائمة على تأسيس الدين في نفوس الأطفال على الرعب من الله ومن الموت ومن عذاب القبر ومن الأعور الدجال ومن الثعبان الأقرع ومن عذاب جهنم. فالطفلة ميرا، التي ظهرت مع والدتها على قناة الأردن اليوم في برنامج حديث اليوم، تشرح ما تعرّضت له من رعب في حصة الدين، حيثُ تبرّعت المعلمة، اليقِظة على حاجات الطفولة في مستوى الصف الرابع الابتدائي!، أن تشرحَ بالصور للطفلات كيفية تغسيل الموتى، وما يصيب جسد الميت من تحلُّلٍ وديدان!! بل وزادت على ذلك، بحسب الطفلة، أنها تتحدّث عن عذاب القبر، وعن الثعبان الأقرع وغير ذلك من قصص رعب.
وغنيٌّ عن القول أنَّ الطفلة تعرَّضت بهذا النوع من التعليم الذي يزجُّ بالدين في منطقة العنف، ولا يراعي حاجة الأطفال إلى السلام النفسيّ والأمان، إلى صدمةٍ قاسيّة ألجأت أهلها إلى عرضها على طبيب نفسيّ لمساعدتها في تجاوز هذه المحنة التعليميّة (الطبيب شارك في البرنامج وأدلى بشهادته)، كما ألجأتها إلى تغيير المدرسة التي لم تتجاوب مع المشكلة، بما يحملُ ذلك من كُلَفٍ ماديّةٍ ونفسيّة. بل إن معلمة الدين، سيئة الإعداد المهني رديئة الفهم للدين، تجاوزت مهمتها كمعلمة ومربيّة صفّ، إلى ترويع الطفلة بتأليب زميلاتها في الصفِّ عليها، وتشجيعهنّ للتنمرّ عليها.
هذه قصة ميرا في إحدى المدارس الخاصّة. وهي قصّةٌ لم نكن لنتحقّقَ منها، لولا أن والدتها على درجةٍ كبيرةٍ من الوعي والعلم والاتزان، فقرّرت أن تجعلَ من القصة الفرديّة قضيةَ رأيٍ عام. وهي قضيّةٌ تفتح ملفَّ "العنف المقدّس" على مصراعيه، لا أمام وزير التربية وجهاز الدولة فحسب، بل أيضاً أمام المجتمع الذي بدأ يغرقُ شيئاً فشيئاً في المقدَّس الوافد، مطعَّماً بأعظم ما تقدر عليه بيئةٌ قاحلةٌ من قسوةٍ. وهي قصّةٌ ليست نادرةَ الحدوث، فلدينا عشراتُ القصص الدالّة على ما يتلقاه الأطفالُ من تعليم وتوجيهٍ قائمٍ على الرعبِ والطاعة العمياء التي تُعِدُّ بما لا يدعُ مجالاً للشكِّ دواعشَ صغاراً، في أيديهم سيفُ التكفير وكراهيةُ الآخر. بل وهناك فيديوهات متداولة لمعلمين يأخذون الطلبة إلى القبور في رحلةٍ ميدانيّة، للعظة والتخويفِ الذي يجعل الفتى يلجأ إلى هذا النوع الإرهابي من التديّن. وفي أكثر من مدرسةٍ قدَّمت المعلمات لأطفال الروضة عرضاً حيّاً لذبح الأضاحي يقوم به أطفال روضة بأنفسهم، طفلاً طفلاً، على دمى بلاستيك بسيوفٍ بلاستيك، دون أن تنسى المدرَسة الجهبذة قذفَ المياه الملوّنة بالأحمر، تعبيراً عن الدماء. كل هذا العنف يتمُّ باسم الدين.. وهنا أقترح أن يسأل وزير التربية أيَّ طفلٍ في أيِّ مدرسةٍ ممن يعلن شعاراً دينيّاً أو حتى عصرياً، عن رأيه في جواز تهنئة المسيحيين، أو عن رأيه في الشيعة، أو عن رأيه في تارك الصلاة، أو عن رأيه في تاركة الحجاب.. وسيتلقى معاليه من الإجابات ما يشيبُ له الولدان.
إذا كان التعليمُ قد انتشرَ فيه أمثال هذا التعليم الهمجي، القائم على كسب مزيدٍ من الأجيال المهزومة العقل، المهزوزة النفوس، فما بيدنا حيلة إلا أن ننظر في تأهيل هؤلاء البشر، وفي تشديد الرقابة على ما يجري تحت أرجلنا من مياهٍ آسنة، وفي إعادة قراءة الواقع بفقره الروحيّ المدقع الخالي من الفنون واللطفِ ومعاني الجمال.
هناك دوماً أملٌ.. وسنتبع إشاراته!