ميس شلش .. جسر جسور

 

من أجمل وآخر ما غنت/أنشدت المنشدة ميس شلش أغاني لراحلين عزيزين عليها، هما والدها الشاعر والفنان الفلسطيني سعود شلش في ألبوم "فراقك غالي 2009"، وياسر عرفات "أبو الوطنية الفلسطينية" في ألبوم "يا جبل ما يهزك ريح 2010". كما غنت للوحدة الوطنيّة: لقادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين: جورج حبش وأبو علي مصطفى، وغنت لمؤسس حركة الجهاد الإسلامي، فتحي الشقاقي، ومؤسس حماس أحمد ياسين، ولكتائب الأقصى والقسّام.

اضافة اعلان

ميس شلش بحضورها وأغنياتها يصدق وصفها بأنّها "جسر" بل هي "جسر جسور"، ويتجسد هذا بأكثر من ومظهر.

أولها؛ يتعلق بتخطيها حظر غناء المرأة والفتاة. فقد كان الإسلاميّون يستخدمون أصوات الأطفال (ذكوراً وإناثاً) في النشيد الإسلامي لزيادة تنوع طبقات الصوت المستخدمة. وبرزت ميس منشدة طفلة، ما منحها قبولاً في وسط النشيد الإسلامي، بحكم سنّها. ولكن ميس لم تتوقف، عندما شبّت، عن النشيد، بل تطورت إلى الغناء الملتزم، وخلفها كورال من المنشدين، وهو ما أقرها عليه علماء دين بارزون مثل يوسف القرضاوي، فكانت بذلك جسراً بين المرأة والفتاة الملتزمة بالحجاب والفن الهادف. وبانتقالها للغناء الذي يوصف بالملتزم، ودخولها في تجارب غنائية مع مطربين كبار مثل المطرب المصري محمد الحلو في أغنية "سبعة أعوام يا أبتي"، كانت أيضاً جسراً بين النشيد والغناء، وتكون قد نقلت النشيد إلى آفاق أرحب، وأسهمت في مراجعة القيود والمحددات التي وضعت حول ما سميّ منذ الثمانينيات باسم "الفن الإسلامي"، وهي قيود ومحددات تتراجع عمليا لأسباب عديدة، ربما لأنّ بعضها مصطنع.

ثاني مظاهر التجسير الذي تقوم به، هو بين الأجيال. أغنيتها الرائعة "فراقك غالي" والمهداة إلى روح والدها، جسر بين جيلين؛ جيل الوطنية الفلسطينية المضمخة بالعتابا وجفرا والميجانا، عندما كان جورج حبش، وعرفات والوزير، هم رموز المرحلة، والجيل الجديد، أو ما يعرف باسم "جيل الصحوة". وهي في هذا تقول "بدي أكمل مشوارك، وأمشي معاك"، "بصوتي لسّا أشعارك، حق العودة شعارك، بدي أكمل مشوارك وأمشي معاك"، وتضع كل ذلك في قالب من "النشيد".

ثالث مظاهر التجسير، هو بين "الوطنية" و"الإسلامية"، وهو ما يتضح في أغانيها التي تدعو أن "لا يخون الدم الدم"، والتي تحيي فيها الشهداء من قادة الفصائل بمختلف اتجاهاتها، وهي بذلك ربطت الوطنيّة الفلسطينية التقليدية، تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، وبقيادة "فتح"، والأغاني المنتجة والمرتبطة بسنوات الخمسينيات وحتى الثمانينيات مع الفكرة الإسلاميّة. أي أنّها عبّرت عن فكرة "الوطنية الإسلامية"، أو عن بذورها الكامنة فلسطينياً، والتي تجعل من فلسطين "البوصلة"، وهو أمر غاب عن العمل الفلسطيني الإسلامي المنظم، حتى مطلع الثمانينيات، لصالح مشروعات إسلامية أعلى، وأولويّات أخرى، من دون توفيق حركي عملي بين الفكرة الأبعد، أو الأسمى، من وجهة النظر الإسلامية حينها، والقضية الأقرب. وتكون قد رفضت الفصائلية المتفشية بين الجميع من دون تمييز. ميس بذلك تساهم في ترسيخ أفكار وقيم لدى من يسمعها (خصوصاً من الشباب) بأنّ كل هؤلاء القادة والفصائل، وما يمثلون، ورغم تبايناتهم الفكرية والسياسية، يجمعهم التناقض الرئيسي، ضد الاحتلال. وإذا غنى كثيرون لكل هؤلاء معاً، فهم بذلك يكونون قد انجذبوا لقيم وطنية عليا تتجاوز تناقضات الفصائل الثانوية.

لا أحمّل ميس أو أغانيها أكثر مما تحتمل بالحديث عن التناقضات الثانوية والرئيسية، والثنائيات الزائفة، ومفهوم "الوطنية الإسلامية"، فالغناء كما الفن، روافع للحركات الوطنية والشعبية، وتعبير عنها، يقدّمها المبدع بفنه وأخلاقه وهمومه، منطلقاً أحياناً من إحساسه بها، أكثر ربما من إدراكه لها فكريّاً على نحو واضح.