مَن سيدير العالم (1)

Untitled-1
Untitled-1

التأسيس الرابع: الولايات المتحدة والنظام الليبرالي (2-2)

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

جدعون روز - (فورين أفيرز) عدد كانون الثاني (يناير)/ شباط (فبراير) 2019اضافة اعلان
توسيع المكاسب
التعاون صعب، خاصة عندما يكون مع أناس آخرين. وكما لاحظ روسو Roussea: شكِّل مجموعة لصيد أيِّل، وسوف يندفع شخص ما لمطاردة أرنب، ويجعل الأيِّل يهرب ويترك الآخرين جائعين. ويجد البشر من الأسهل عليهم الاجتماع على الخوف من الترابط على الأمل. وهكذا، جاءت لحظة حاسمة للنظام عندما تضافر الأمل والخوف معاً لدفعه إلى الأمام.
في العام 1947، مضت إدارة ترومان قدماً بخطتها لضخ رؤوس الأموال الأميركية في اقتصاد أوروبي منبعث حديثاً ومتركز على ألمانيا وفرنسا. وقدمت مساعدات سخية لأي دولة في المنطقة مستعدة للعب وفقاً لقواعد النظام الجديد، واغتنم المعظم الفرصة. لكن موسكو لم تكن لديها الرغبة في أن تكون جزءاً من أي نظام أميركي، ولذلك رفضت وأمرت أتباعها بأن يفعلوا الشيء نفسه. وبعد ذلك بدت واشنطن مرتاحة مع بناء نظامها في النصف الغربي من القارة، بينما فعلت موسكو الشيء نفسه في الشرق. وهكذا حدث أن تزامنت المرحلة الثانية من تاريخ النظام مع الصراع الجيوسياسي المعروف باسم "الحرب الباردة".
وصل صانعو السياسة الأميركيون إلى رؤية الاتحاد السوفياتي كتهديد خلال أواخر الأربعينيات. لكن ذلك التهديد لم يكن يتوجه إلى الوطن الأميركي، وإنما توجه إلى الترتيب الذي كانوا يحاولون بناءه، والذي امتد كثيراً خارج الحدود الأميركية إلى مراكز القوى الصناعية الرئيسية في أوروبا وآسيا والمشاعات العالمية، والذي تطلب وجوداً أمامياً مستداماً للحفاظ عليه. لم يكن الكونغرس ولا الجمهور الأميركي يطالبون بشغف بإطلاق مثل هذا المشروع الكبير الجديد بعد الحرب. كانت لديهم مشاكلهم الخاصة وكانوا متشككين إزاء التخويل بإنفاق مبالغ كبيرة من المال لإعادة أوروبا إلى الوقوف على قدميها. ولذلك حرَّفت إدارة ترومان القصة بذكاء، وقدمت نهجها الجديد -لا كمشروع مستقل لبناء النظام العالمي الأميركي، وإنما كرد على التهديد السوفياتي المتنامي. وقد نجح هذا كسب الموافقة على مبدأ ترومان، وخطة مارشال، وغيرهما من التدابير. لكنه حرَّف ما كان يحدث حقاً.
كان الاحتواء ضرورياً لحماية النظام. ولكن، بمجرد أن تم تأسيس الاحتواء كإطار استراتيجي لواشنطن، فإنه هيمن على السرد. وتم بيع التكامل التعاوني على أنه شيء يحدث لربط أطراف التحالف الأميركي معاً من أجل كسب الصراع بدلاً من كونه شيئاً ذا قيمة في حد ذاته. وقد استمر هذا لمدة طويلة حتى أنه عندما انتهت الحرب الباردة أخيراً، فوجئ الكثيرون من أن النظام استمر.
لم يتوقع أحد سقوط جدار برلين في العام 1989 أو انهيار الاتحاد السوفياتي بعد ذلك بعامين. وكان ذلك هو التحقق المفاجئ للرؤية التي طرحها الدبلوماسي جورج كينان قبل عقود من الزمان: لقد تحملت الولايات المتحدة الضغط، وانتظرت، وشاهدت في النهاية خصمها وهو يتنازل عن الميدان.
ما الذي ينبغي أن يأتي تالياً بالنسبة للسياسة الخارجية الأميركية؟ في ذلك الوقت، بدا هذا سؤالاً مفتوحاً، وأريق الكثير من الحبر حول "يانصيب كينان"، واقترح الناس بدائل عن الاحتواء. لكن السؤال لم يكن مفتوحاً حقاً، لأنه كان له جواب واضح: حافظ على المسار.
أدركت إدارة جورج دبليو بوش الأب أن الحرب الباردة كانت تشكل في الواقع تحدياً للنظام، وعندما استسلم المنافس، أصبح النظام حراً في التوسع والازدهار. لم تكن مهمة واشنطن الآن هي كتابة قصة جديدة، وإنما مجرد كتابة فصل آخر في قصة قديمة، كما قال برنت سكوكروفت، مستشار بوش للأمن القومي، للرئيس في مذكرة في العام 1989:
"في مذكراته، ‘حاضر عند الخلق’، لاحظ دين آتشيسون أن مهمتهم، في العام 1945 ‘بدأت في الظهور على أنها أقل صعوبة بعض الشيء من تلك الموصوفة في الفصل الأول من سفر التكوين. كان ذلك خلقاً لعالم من رحم الفوضى؛ ومهمتنا، خلق نصف عالم، نصف حر، من نفس المادة ومن دون نسف كل شيء إرباً في العملية’. عندما استراح هؤلاء الخالقون في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، كانوا قد أنجزوا الكثير. لدينا الآن فرص غير مسبوقة لفعل المزيد؛ لمواصلة المهمة من حيث غادروا، بينما نفعل ما يجب فعله لحماية ميراث أنيق".
وكان تعليق بوش: "برنت -لقد قرأت هذا باهتمام"!
وهكذا، خلال التسعينيات، قامت إدارتا بوش الأب وكلينتون بإعادة تأسيس نظام حقبة ما بعد الحرب الباردة. لم تكونا متأكدتين من طول المدة التي ستستمر فيها أحادية القطب وواجهتا جمهوراً وكونغرساً متشككين. وهكذا، ارتجل التكنوقراط وشقوا طريقهم بأفضل ما يستطيعون. أدار بوش الأب بمهارة انهيار الاتحاد السوفياتي، وجعل من ألمانيا الموحدة أحد أعمدة النظام، وقاد ائتلافاً لتحقيق الاستقرار في الخليج الفارسي بعد غزو العراق للكويت، ودفع إسرائيل والعرب نحو السلام، وأدار الشؤون المالية الأميركية بطريقة مسؤولة.
ثم واصل كلينتون المسار العام نفسه. قام بتطوير التكامل الاقتصادي لأميركا الشمالية، وبتجديد التحالف الأميركي الياباني، وتوسيع حلف الناتو إلى أوروبا الشرقية، واحتواء التهديدات الأمنية الإقليمية في الشرق الأوسط وآسيا، وتعزيز عملية السلام العربية الإسرائيلية، وأيضاً إدارة الشؤون المالية الأميركية بشكل مسؤول. وبحلول مطلع الألفية، كانت الولايات المتحدة والنظام أقوى وأكثر ثراء وأكثر أماناً من أي وقت مضى.
التحلُّل العظيم
بعد عقدين من الزمن، أصبح الأمر معقداً. من خلال توفير السلع الدولية العامة، مثل الأمن العالمي والإقليمي، وحرية المشاعات، ونظام تجاري ليبرالي، أنشأت الولايات المتحدة ما كان -بأي معيار تاريخي- بيئة عالمية مستقرة وحميدة؛ أشبه بعينة مخبرية بحجم الكوكب، والتي تعرض التطور البشري والوطني. ومن العام 1989 إلى العام 2016، ازداد الناتج العالمي بأكثر من ثلاثة أضعاف؛ وارتفعت مستويات المعيشة؛ وتم انتشال أكثر من مليار شخص من ربقة الفقر؛ وانخفض معدل وفيات الرضع؛ وعززت التقنيات الحديثة الحياة اليومية بشكل مستمر ووصلت بين الناس بطرق جديدة غير عادية.
لم نعد إلى المستقبل أو نفوِّت الحرب الباردة. كانت أوروبا تستعد للسلام؛ ولم تنضج المنافسات الآسيوية. ولم تأتي الفوضى؛ وأصبحت فوضى ما بعد الحرب الباردة أسطورة. وفي موضوع العناوين الكبيرة -سلام القوى العظمى والازدهار العالمي- كان الواقعيون المتشائمون مخطئين، وكان الليبراليون المتفائلون على حق.
لكن استقرار الاقتصاد الكلي تعايش مع الفوضى الإقليمية. وكان من الصعب اكتشاف الإشارة في كل تلك الضوضاء. ونسي معماريو النظام في المرحلة الحالية من العولمة أن النفع من انتشار الرأسمالية هو ناتج صافٍ، وليس خيراً مطلقاً، وأنه مع مكاسبها تأتي الخسائر -فقدان الشعور بالمكان، والاستقرار الاجتماعي والنفسي؛ والحصون التقليدية في وجه تقلبات الحياة. وفي غياب نوع من التدخل الحكومي، لا يتم توزيع فوائد العولمة بشكل ثابت أو متساو، مما ينتج الغضب والاضطراب إلى جانب ارتفاع التوقعات. وقد عززت واشنطن العولمة وزودتها بقوة توربينية، حتى بينما خفضت شبكة الأمان المحلية، ونقلت المخاطر من الدولة إلى الجمهور في الوقت الذي بدأت فيه عواصف التدمير الإبداعي بالعويل.
خلق المزيد من المال المزيد من المشاكل. وأنتجت السلطة من مستوى كبير إلى انحطاط على مستوى كبير. وأفضت الهيمنة التي لا تُنازَع إلى شن حملات عنيفة لا داعي لها وسيئة التخطيط. وتعثرت النخب غير الخاضعة للتقنين داخلة في أزمة مالية. وأصبح التكنوقراط الذين يديرون الأمور منعزلين كثيراً في قصور أحلامهم الكوزموبوليتية حتى أنهم فوَّتوا كيف بدت الأشياء سيئة بالنسبة للكثيرين الذين ينظرون إليها من الخارج.
نتيجة لذلك، انتهى الأمر بمشروع الليبرالية وقد اختطفته القومية، تماماً كما حدث مع مشروع الماركسية وراء في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وأصبحت شرائح كبيرة من السكان الغربيين تفكر بأن النظام لم يعد مناسباً لها، وعلى نحو متزايد، لم يعودوا يرون أي سبب لتسليم مصيرهم إلى مؤسسات تعاني من اختلال وظيفي وعاكفة على تنضيب جيوبهم الخاصة. وكما علق أحد القراء في مجلة "فورين أفيرز" مؤخراً: "سوف أبسطها لكم: يرفض الأميركي العادي قيأكم العولمي، المعادي لأميركا، المناهض للدستور، والصائب سياسياً".
بحلول العام 2010، كانت الترتيبات القديمة قد كُسرت بشكل واضح، لكن أي شيء لم يتغير بفضل الجمود السياسي. وركزت السياسة الخارجية للرئيس باراك أوباما على محاولة حماية جوهر النظام من خلال التراجع عن التوسع المفرط في الأطراف. ثم جاء ترامب، العبقري السياسي ذاتي التعليم، والذي اندفع إلى المنصب كشخص خارجي يندد بكل سياسة الحكم القائمة.
سخر خبراء السياسة الخارجية من احتضان ترامب الغريزي لشعار "أميركا أولاً" كعنوان لحملة انتخابية، لأن الجميع يعرفون أن هذا كان النهج الذي فشل بشكل ذريع مباشرة قبل أن ينجح النظام. لكن ترامب لم يهتم. فالنظام لعبة ذات حاصل إيجابي، بينما يعيش هو في عالم محصلته صفر. ويقوم النظام على التعاون المستمر من أجل المنفعة المتبادلة، وهو أمر لا يفعله ترامب. أبداً.
خلق انتخاب ترامب وضعاً مثيراً للاهتمام. أراد الشخص الذي أصبح مسؤولاً الآن عن إدارة السياسة الخارجية للولايات المتحدة أن يعيدها إلى أيام الثلاثينيات الذهبية. وفضل المنافسة على التعاون؛ والحمائية على التجارة الحرة والاستبداد على الديمقراطية. وشعر بأن انتخابه يسمح له بالسيطرة على الحكومة بأكملها بالهوى والنزوات، بالطريقة نفسها التي سيطر فيها على شركته. ولم يوافق على ذلك آخرون، ولم يتم حل التوترات أبداً. وعند نقطة معينة، اجتمع جهاز الأمن القومي بأكمله مع ترامب في الطابق السفلي من البنتاغون لشرح النظام له. وكان الرئيس ضجِراً ومتوتراً. (كان ذلك هو الاجتماع الذي غادره وزير خارجيته آنذاك وهو يصفه الرئيس بـ"المعتوه السخيف"، بحسب بوب وودوارد).
على مدى السنتين الأوليين له في المنصب، عمل الرئيس تدريجياً على حل ترتيبات تقاسم السلطة العاملة مع الجمهوريين في الكونغرس، منتجاً إدارة مكرسة لخفض الضرائب، وإلغاء القيود واللوائح، والتركيز على المحاكم المحافظة، والإنفاق العسكري، والقيود المفروضة على الهجرة والتجارة. أما الغائب عن جدول الأعمال، فهو ما وصفه شخص غريب غير موثق من القرن الماضي بأنه "الحقيقة والعدالة والطريقة الأميركية".
في الشؤون الخارجية، وبينما تجد نفسها ممزقة بين رئيس متقلب غير ناضج يذهب في اتجاه، وبيروقراطية مهنية حرون تذهب في الاتجاه الآخر، ومفتقرة إلى استراتيجية كبرى، أو حتى إلى منظرين استراتيجيين، عرضت الإدارة القليل غير الصور الفوتوغرافية والإيماءات الانفعالية. وما تزال العمليات الروتينية لصيانة النظام العالمي مستمرة، وإنما بتأثير متناقص باطراد، لأن الجميع يرون أن القائد العام يزدي المهمة الكامنة. وبالعيش في حاضر دائم التحول، يستخدم ترامب القوة الوطنية غريزياً للاستيلاء على كل شيء في المتناول. لك أن تسميها سياسة خارجية كعمل مناهض للمجتمع.
ماذا الآن؟
من المرجح أن تتبع السنتان المقبلتان النمط نفسه، بينما تقابل زيادة سيطرة ترامب على الفرع التنفيذي سيطرة الديمقراطيين على مجلس النواب. لن ينفجر النظام العالمي، لكنه سيستمر في التآكل، متجهاً نحو ما وصفه العالِم السياسي، باري بوزن، بأنه "الهيمنة غير الليبرالية". وفي نهاية المطاف، سوف يأتي رئيس آخر وسيترتب عليه تخمين ما ينبغي عمله تالياً.
قد يبدو أن السياسة الخارجية الأكثر ذكاء لما بعد ترامب هي استخدام نسخة أكثر رقة من الترامبية نفسها. سوف يستطيع الرئيس الجديد أن يجمع أي مكاسب استخلصها ترامب، وأن يتخلص من الحديث الفارغ ويستبدله بالحديث الناعم، ويقدم بعض التنازلات، ويشير إلى المثل العليا القديمة –حتى بينما يواصل المساومة بشدة مع كل أحد حول كل شيء. وسوف يشعر العالم ببعض الراحة بعد التخلص المجنون ويكيل الثناء للشاغل الجديد للمكتب البيضاوي -فقط لمجرد كونه ليس ترامب. ومع بعض الاعتذارات الرمزية عن مواطن الاستياء وتجديد للتعهدات والنذور، يمكن أن تمضي الحياة قدماً مثلما كانت في السابق نوعاً ما (بل وربما أفضل، الآن وقد أصبح الجميع يتذكرون أن للولايات المتحدة مخالب تحت قفازاتها).
سوف يكون ذلك خطأ فادحاً. لأنه بحلول الوقت الذي يغادر فيه ترامب المنصب، فإن المطالب من الولايات المتحدة ستكون قد تحولت من دعم النظام إلى تقويضه. وخلال فترة ترامب، ستكون الولايات المتحدة قد كسرت روابط الثقة اللازمة للإبقاء على المشروع المشترك سائراً إلى الأمام، ومن دون ثقة، سوف يشرع النظام تدريجياً في التداعي والانهيار. وما لم يحدث تغيير جوهري في المسار، فإن الدول الأخرى سوف تحذو حذو واشنطن وتطارد الأرنب، ولن يتمكن أحد من أكل لحم الأيِّل لوقت طويل.
سوف يتطلب إصلاح الضرر أكثر من مجرد أن لا يكون المرء ترامب. سوف يتطلب كون المرء نقيض ترامب: يقول الحقيقة، يفكر للآخرين كما يفكر لنفسه، ويتصرف على المدى الطويل. وتدور الترامبية حول الكسب، وهو شيء تفعله للآخرين. والنظام يتطلب القيادة، وهي شيء تفعله مع الآخرين. وإذا استطاعت الإدارة التالية أن تقدّر هذا التمييز، فإنها ستنال الفرصة لإعادة تشغيل النظام مرة أخرى.
غير قابل للتصور، سوف يصرخ المتشككون. حتى لو اشترى المرء هذه النظرة الخيالية لما حققه النظام ذات مرة، فإن عمره قد انتهى. الأميركيون لا يريدونه. العالم لا يريده. القوة الأميركية تتداعي؛ وقوة الصين تتصاعد. والعودة إلى صراع القوى العظمي لا مفر منه؛ والسؤال الوحيد هو إلى أي مدى ستذهب الأمور.
مع ذلك، تتجذر مثل هذه الإعلانات الجريئة في مفهوم قديم للسلطة الوطنية. ويركز الواقعيون تحليلاتهم حصرياً على العوامل المادية، مثل القوى العسكرية والحصص من الناتج الاقتصادي العالمي. وربما يكون هذا منطقياً في عالم من دول "كرات البلياردو" التي تضرب واحدتها الأخرى باستمرار. ولكن، يتبين أن أجزاء كبيرة من الحياة العالمية المعاصرة لا تشبه المنافسة الكاملة وإنما نقيضها؛ ما يصفه العالمان السياسيان روبرت كيوهان وجوزيف ناي بأنه "اعتمادية متبادلة معقدة". وفي تلك المناطق، تترابط البلدان معاً في الكثير من العلاقات والشبكات، وتكون الحياة سلسلة غير منتهية من رحلات صيد الأيائل. ولا يتعلق البقاء فقط بكسب تحديات الحصانة الفردية؛ إنه يتطلب ممارسة لعبة اجتماعية، والقدرة على جلب الجماعات معاً. ويتبين أن الولايات المتحدة، فيما ينطوي على مفارقة، لديها لعبة اجتماعية جيدة جداً –جيدة إلى حد أنها توقفت منذ وقت طويل عن الانصياع إلى النظرية الواقعية وطورت نهجها الفرداني الخاص، وهو واحد يتبارى الأكاديميون لتعريفه بالمفاهيم النظرية: إمبراطورية بالدعوة؛ هيمنة بالتراضي؛ حوت ليبرالي.
في الحقيقة، تراجعت القوة الخشنة للولايات المتحدة بالمعنى النسبي عن ذروتها في حقبة ما بعد الحرب. لكن هذه الحقيقة لا تتسم بالأهمية التي يفترضها الواقعيون. إن القوة الخشنة المطلقة للبلد هي أعظم من أي وقت مضى، وهي تتضاعف بقوتها الناعمة. على مدى أجيال، فعلت الولايات المتحدة ما قالت النظرية الواقعية أنه مستحيل، فمارست السياسة الدولية باعتبارها رياضة جماعية، وليس لعبة فردية. وفي الميزان، اعتبرت دولها في النظام على أنه حامي مجتمع، وليست كمستغل لعلامات التعاسة؛ وقد شاركت في التحالفات، ولم تعمل كبائع للأمن. وبفضل ذلك، عندما يأتي وقت العمل الحاسم لصيانة النظام، فإنها تستطيع أن تضيف قوة أصدقائها إلى قوتها الخاصة.
وضع الصين يختلف. كانت سرعة ونطاق صعودها على مدى السنوات الأربعين الماضية مذهلة. وقد أخذت الصين، أيضاً، الفائدة الكاملة من البيئة الخارجية الهادئة ونظام التجارة الحرة اللذين وفرهما المهيمن الليبرالي في زمانها. والآن، نضجت هي أيضاً لتصبح لاعباً عالمياً، وهو ما يتطلب استراتيجية جديدة مناسبة لمكانتها. ومع ذلك، ولأن الصين فردياً، فإن قوتها الخشنة الخاصة هي إلى حد كبير كل ما لديها لتعرضه. وبعيداً عن كوريا الشمالية، فإن لها القليل من الحلفاء؛ والتعاون الذي تحصل عليه من الآخرين إما مشترى أو مفروضاً بالأمر. لكن الحب ليس معروضاً للبيع.
بالتحديق في التوازن الثنائي المادي، ربما يرى المرء تحولاً في القوة في المدى المنظور. أما في العالم الحقيقي، فإن منافسة "فريق واشنطن" مقابل "فريق بكين" غير متوازنة، حيث يدعم النظام ثلاثة أرباع الإنفاق الدفاعي العالمي، ومعظم الاقتصادات الكبرى، واحتياطي العملة العالمي. وما يسميه المنظِّرون "فخ ثيوسيديديس" تم فتحه بإمكانيات الحداثة.
سوف يتضمن التعامل مع التحدي الصيني المهمة التقليدية المتمثلة في "رعي القطط" عالمياً. كانت الولايات المتحدة قد انضمت إلى المملكة المتحدة، وفرنسا، وروسيا، للتغلب على ألمانيا الفيلهيلمية؛ وأعادت تجميع العصبة معاً -بالإضافة إلى الصين القومية- لهزيمة ألمانيا النازية واليابان الإمبريالية؛ ثم جمعت معاً مجموعة كبيرة -بالإضافة إلى الصين الشيوعية- لتهزم روسيا السوفياتية. وهي تحتاج الآن إلى قيادة مجموعة أكبر من أجل رقصة مع الصين المعاصرة.
لكن بعض الأشياء أصبحت مختلفة الآن. خلال الحرب الباردة، تعاملت الولايات المتحدة مع حلفائها الرأسماليين وحدقت بغضب في أعدائها الشيوعيين. وظهرت الحقول الحديثة للاقتصاد العالمي والدراسات الأمنية خلال تلك الفترة كحزم من الأدوات المنفصلة لكل مجموعة من العلاقات. والآن وقد صعدت الصين لتصبح نظيراً اقتصادياً من دون تحرير نظامها، فإنها تمارس لعبة مختلطة من التعاون والتنافس، وهو شيء لم يكن على واشنطن أن تتعامل معه من قبل على هذا المستوى.
لا يشكل أي من الاشتباك أو الاحتواء وحده نهجاً قابلاً للتطبيق. والسؤال هو كيف يمكن مزجهما معاً من دون الانزلاق إلى دوامة الصراع. ويعني ذلك الجمع بين التدابير عبر مجالات القضايا المختلفة في استراتيجية متساوقة، ومنح الأولوية للأهداف، والعمل عن كثب مع الحلفاء والشركاء الإقليميين، وجلبهم إلى الصف -ليس من خلال التنمر، وإنما بالعمل الصبور على التوصل إلى تسوية مقبولة من الطرفين.
قوام النظام هو مجموعة من التجمعات التعاونية الثنائية، والإقليمية، والوظيفية. ولأن لديه الكثير جداً من عناصر ونقاط الدخول، فإن البلدان ليست مستعدة للانضمام بحزمة كاملة على الفور بينما يمكن أن تدخله بالتدريج ومع الزمن، بدءاً من الهوامش وإلى المركز بإيقاع خطوها الخاص. وهذا ما يجب على الولايات المتحدة وحلفاؤها إقناع الصين بفعله، على أمل أنها ربما تعلب في يوم من الأيام دور الشريك المسؤول في النظام. وإذا نجح هذا النهج، فعظيم. وإن لم يفعل، فإن اللوم عن أي صراع مستقبلي سوف يقع على بكين، وليس واشنطن.
سوف يحتاج صانعو السياسة أيضاً إلى معالجة التحدي الكبير الآخر في الوقت الراهن؛ الفوضى والقلق اللذين ينجبهما التقدم السريع للأسواق في حقبة ما بعد الحرب الباردة. وأحد الدروس المستفادة من الثلاثينيات هي أنه حتى تكون الليبرالية الاقتصادية مستدامة سياسياً في بلد ديمقراطي، فإن على الدولة أن تتدخل لحماية المواطنين من التعرض لمنشار قوى السوق الثنائي. وقد أصر الأوروبيون على الإقرار بهذا كثمن لمشاركتهم في نظام ما بعد الحرب، ونتيجة لذلك، لم يتم إجبار الاقتصاديات الوطنية على الانفتاح بسرعة أو بشكل كامل.
على صانعي السياسة اليوم إدراك الحكمة في تلك الصفقة القديمة، وأن يقرنوا تعاونهم الدولي بالتزام بإصلاح شبكات أمانهم الاجتماعية المحلية الممزقة، ومنح مجتمعاتهم الوقت والحيز لالتقاط أنفاسها، ولشعوبهم السيطرة على وتيرة التغير الاقتصادي والاجتماعي والتقني.
هذا الجانب المحلي من المشروع قيم في حد ذاته، وضروري أيضاً للاحتفاظ بالدعم العام للسياسة الخارجية. ولا يكمن التحدي الحقيقي أمام إجراء تأسيس رابع في النظرية أو في الخطط، وإنما في السياسات الحكومية. ليس النظام مشروعاً لبناء دولة، وإنما مجموعة وظيفية من الترتيبات التعاونية المصممة لتقليل سلبيات الفوضوية. وعلى هذا النحو، فإنه يجتذب العقول، وليس القلوب. وكذلك، على الرغم من أن القصة التي تحكى هنا صحيحة، فإن خيط السرد يصبح أوضح لدى تأمل الماضي، بحيث لا يتم الاعتراف بحقيقته كونياً. بعض الأميركيين لم يشتروا المشروع أبداً، وما يزال الكثيرون لا يفعلون. ومن دون "الحرب الباردة"، تبين أن حشد دعم شعبي لسياسة البلد الخارجية الحقيقة أصبح أصعب بكثير. ولذلك، جاء كل رئيس منذ انهيار الاتحاد السوفياتي إلى المنصب مع الوعد بعمل الأقل خارجياً -فقط لتجره الأحداث إلى عمل المزيد.
بما أن من التحشيد على الخوف أسهل من التحشيد على الأمل، يجد بعض مؤيدي النظام شيئاً إيجابياً في تنامي التهديد الصيني، معتقدين أنه ربما يكون من الممكن إعادة خلق إجماع "حرب باردة" جديد في صراع آخر مطول وهلامي ضد خصم جديد. ويمكن أن يكون هذا هو المكان حيث تتجه الأمور بغض النظر عن أي شيء. ولكن، سيكون من الأفضل بكثير لواشنطن لو أنها تستمع إلى الأركان الأفضل من طبيعتها وأن تحاول تجنب مثل هذه النتيجة بدلاً من تسريعها.
في العام 1945، في ذروة قوتها النسبية، وعندما كان بوسعها أن تفعل كل ما تريد، رفضت الولايات المتحدة العزلة والسياسة الواقعية واختارت العيش في عالم من تصميمها هي. وقد فعلت ذلك، كما فسر روزفلت المحتضر، لسبب:
"لقد تعلمنا أننا لا نستطيع العيش وحدنا، في سلام؛ وأن رفاهنا الخاص يعتمد على رفاه الأمم الأخرى البعيدة. تعلمنا أن علينا أن نعيش كبشر، وليس كنعام، ولا ككلاب في مذود. تعلمنا أن نكون مواطنين للعالم، وأعضاء في المجتمع البشري. تعلمنا الحقيقة البسيطة، كما قالها إميرسون، أن ’الطريقة الوحيدة لكي يكون لك صديق هو أن تكون صديقاً‘".
عندما قال روزفلت ذلك، كان يعنيه -ولأنه كان يعنيه، صدَّقه الآخرون وانضموا إليه. وقد نجحت استراتيجية مقابلة اللطف باللطف. وبعد ثلاثة أرباع قرن لاحقاً، أصبح فريق الدول الحرة الذي جمّعه يدير العالم الآن في كونسورتيوم فضفاض، منقسم وغير كفؤ. وعندما يقابل أعضاؤه الرئيس الأميركي التالي، فإنها سيتوقعون سماع الخطاب المعتاد، وسوف يصفقون بأدب عندما يفعلون. وبعدئذٍ، سوف يراقبون ليروا إذا كان ثمة شيء تبقى أبعد من الكلمات.

*نشر هذا الموضوع تحت عنوان: The Fourth Founding: The United States and the Liberal Order

*نشر هذا الموضوع تحت عنوان: The Fourth Founding: The United States and the Liberal Order