مُدن بلا حدائق..!

في حيّنا قطعة أرض صغيرة ليس فيها بناء، جرداء ومحاصرة بالعمارات. مع ذلك، في بعض الأحيان تجلب أمٌّ أبناءها ويجلسون فيها للتنزه والتغيير. وقبل عقد فقط، كانت هذه القطعة أكبر، تمتد حتى الشارع البعيد في الأسفل، وتُزرع بالشعير، وخلفه الكثير من أشجار الزيتون. لكن المباني زحفت عليها وأغلقت الأفق، ولم تتبق سوى هذه الأرض الصغيرة التي تُجرف «الأمانة» أعشابها النابتة بجهد ذاتي بمجرد ظهورها مطلع كل صيف. هذه قصة ضواحي عمان التي كانت ذات مرة خضراء، ثم أخلت الأشجار والحقول أماكنها تباعاً لهياكل الاسمنت في زمن قصير، وربما كان لا بُدّ من تمدُّد المدينة مع تكاثر سكانها وتركُّز المؤسسات فيها. لكنّ البناء الكثيف لم يترك مساحات خضراء للمدينة كي تتنفس منها. من الأخطاء التي يصعب تداركها في تخطيط المدن الحديثة شيئان: عدم توقع كثافة السير لعقود تالية، وتصميم شوارع لا تلبث حتى تضيق بمستخدميها ويتعذر توسيعها بسبب البناء على جانبيها؛ وعدم ترك مساحات في الأحياء والضواحي لإنشاء حدائق عامة محليّة. ويُمكن فهم أن تكون شوارع مدينة مثل روما ضيقة، مثلاً، لأن مبانيها قديمة جداً وليس من الحكمة العبث بالروح التاريخية للمدينة الأثرية. لكنّ المدن التي نشأت في الأوقات الحديثة لا تمتلك مثل هذا العذر. في عَمان، أنشئت معظم الطرق والمباني في الضواحي في حياة الكثير من سكانها الأحياء. وكما حدث، قدّر المخطّطون أن شارعاً بثلاثة مسارب على كل جانب سيكون مناسباً إلى الأبد في المناطق الجديدة. وبذلك، سُمح بالبناء على جانبي الشوارع دون ترك مسافة احتياطية للتوسع المستقبلي. والآن، تبين أن التقديرات لم تحسب حساب ثلاثين أو عشرين سنة، ويكاد يتعذر استملاك المباني التجارية هائلة الأثمان لتوسيع الشوارع التي أصبحت صعوبة السير فيها مشكلة يومية. وقد يكون هذا الاتجاه نفسه سائداً أيضاً في التخطيط الحضري للأحياء الجديدة في مدننا، حيث لا تُحسَب التطورات السكانية والعملية بعيدة المدى. وينطبق الأمر نفسه على الحدائق. عندما لا تكون المدن على بحر ولا يقطعها نهر، يكون متنفسها الوحيد هو المساحات الخضراء التي ينبغي أن تكثر في الأحياء. إنها ضرورية بيئياً، لتلطيف الطقس، ومساعدة الأمطار وتصفية الهواء. وضرورية جمالياً ونفسياً عندما ترى العين مشهداً مريحاً ويجد المرء مكاناً خارجياً جميلاً يغير فيه جو المنزل. وهي ضرورية للسلامة، حيث الأطفال ويتنزه الناس من دون الجلوس على حواف الشوارع أو قطع مسافات بالسيارات إلى أماكن التنزه البعيدة. ويحكي مشهد السيارات على جانبي «شارع الأردن»، حيث لا أشجار ولا خضرة يعتد بهما، الكثير عن حاجة الناس اليائسة إلى الفضاءات. وسوف تتقدم المباني على هذه الأراضي أيضاً كما فعلت مع طريق المطار وطريق ياجوز وغيرهما من الأماكن التي كان الناس يقصدونها للتنزه في الجوار قبل أن تغزوها المباني. الآن، ثمة بعض الأراضي التي لم يطلها البناء بعد في مختلف مناطق العاصمة. ومع أن أثمان الأراضي مرتفعة في بعض الأماكن، إلا أن الأمر يستحق أن تشتري الدولة هذه الأراضي بثمن عادل وتستدرك فتنشئ رئات لتتنفس بها المدينة. وليس هذا استثماراً خاسراً، لأن للمدن صحتها وروحها وأجهزتها الحيوية مثل الكائنات الحية. وكان – وما يزال- من الممكن التفكير في استعارة الأراضي الفارغة غير المستخدمة من مالكيها بموافقتهم وزراعتها واستخدامها لتنفس الأحياء إلى أن يحتاجها أصحابها. وهناك أراض خالية منذ عقود، لا هي مبنية ولا مزروعة ولا فيها شيء من جمال. وبالنسبة للشوارع الجديدة، يجدر التعلم من أخطاء الماضي والاحتفاظ بمساحات على الجانبين لإمكانية توسيعها عندما تدعو الحاجة. وفي هذا أيضاً، ربما يكون لهذه الأراضي مُلاك ويتطلب الأمر دفع ثمنها لمصلحة الشارع. لكنّ لهذا الاستثمار مبررا أيضاً عندما يُهدر الوقت وتضيق الأرواح بسبب ازدحام الطرق. أضف إلى ذلك عدم وجود مسارات لسيارات الإسعاف والمطافئ، ولا مضامير للدراجات الهوائية والمشي التي تميز كل مدينة حديثة، وحيث ممارسة هذه الأنشطة في شوارع بلا أرصفة ولا إنارة مناسبة مغامرة بالحياة. في النهاية، يُفترض أن المواطنين يدفعون ضرائبهم ورسومهم لقاء الخدمات، ومنها الحدائق والشوارع المريحة الآمنة. وينبغي أن تؤخذ احتياجاتهم الحالية والمستقبلية في الحسبان لدى التخطيط لحياتهم وحياة أبنائهم.اضافة اعلان