ناجي العلي "الخاص"..!

أحالتني الذكرى الحادية والثلاثون لاستشهاد الفنان العظيم، ناجي العلي، يوم الخميس، إلى لقاء تلفزيوني نادر أجري مع زوجته، السيدة وداد. وأجرى اللقاء القسم العربي من محطة "دويتشه فيله" الألمانية. وكشف الحوار عن جوانب غير معروفة في حياة ناجي الخاصة، وإنما التي لا تنفصل عن حضوره العام، ربما كأكثر رسامي الكاريكاتير العرب شهرة، وأكثرهم خطورة على سيئي النوايا من كل الأنواع.اضافة اعلان
من الملفت أولاً ملاحظة الطريقة التي تزوج بها ناجي العلي. وتقول زوجته أن زواجهما كان تقليديا، حتى أنها لم تجلس وتتحدث معه حتى لمرة واحدة قبل الزواج. وحتى عندما أرادت أن تسمع منه بعد "كتب الكتاب" قبيل الزواج، ونقلت أمها رغبتها إلى الأب، قال الأب أن الزواج سيحدث بعد أسبوع، ولذلك لا داعي لهذا اللقاء. وليس الزواج بهذه الطريقة مألوفا كثيرا في أوساط الفنانين والمثقفين، الذين عادة ما تكون لعلاقاتهم مع الجنس الآخر وزيجاتهم شروط يعتقدونها جزءا من تكوينهم الخاص. لكن زواج ناجي بهذه الطريقة يصبح مفهوما لدى وضعه في السياق الأعم.
تقول زوجته أنه كان زوجا محترما وأبا عطوفا –ولو عصبيا- لكنّ استغراقه في عمله جعله بعيدا تقريبا عن الشؤون العائلية المعتادة. وقد جعله هذا الاستغراق فوق الطبيعي فيما رآه عمله ومهمته يترك كل الشؤون الدنيوية الخاصة بالعائلة لزوجته التي تفهمت شغفه كحتمية. وبذلك، ربما كانت فكرة الزواج والعائلة كلها ثانوية، وعلى هامش الجوهر المتمثل في هاجس الوطن والوجع الإنساني.
 كان ناجي يرسم في الصباح. ينزوي مع أقلامه وأوراقه وقهوته وسجائره طويلا حتى الظهيرة أو ما بعدها، ثم يذهب برسومه إلى الصحيفة. ولم يكن يرسم في مكاتب الصحيفة حتى لا ينصرف انتباهه شغله. وتروي زوجته قصصا طريفة عن مدى انشغاله بما يعمل.
في إحدى المرات النادرة، تطوع ناجي –كما تروي زوجته- بدفع أقساط أولاده المدرسية نيابة عن الزوجة، لأن لديهم سيارة واحدة وكان في حاجة إليها في ذلك اليوم. وفي المدرسة سألوه عن صفوف أبنائه، فلم يعرف في أي صفوف هم. وقد اعتذر للمدرسة عن هذا الوضع بأنه لا يعرف صفوفهم لأنه بعيد في الكويت. وتروي زوجته أيضا أنه عندما كان يحضر الخضار للمنزل، مثلا، ينسى أكياس البقالة في المحلات التي يشتريها منها. بل وأبعد من ذلك، كانوا يسكنون في الكويت في واحدة من ثلاث عمارات متشابهة متجاورة. وكان ناجي كثيرا ما يخطئ العمارة، حتى أنه دخل ذات مرة شقة لجيران في عمارة مجاورة ظنها شقته، وظل صاحب الشقة ينظر إليه بعين الشك بعد ذلك، برغم الاعتذارات والتفسيرات.
تظهر هذه القصص مدى استغراق ناجي الكامل في الهم والعمل إلى حد التماهي. وهو ليس انهماك الإنسان العملي طالب المال الذي يعمل من أجل تحسين وضعه المادي. وتذكر زوجته أنه ابتكر شخصية "حنظلة" لكي لا ينسى نفسه -لكي لا تغريه البحبوحة المادية النسبية بسبب عمله في الكويت بنسيان من هُوَ. وقال إن حنظلة يشبهه، هو الذي خرج من فلسطين بعمر عشر سنوات، فقيراً ومهجّراً من الوطن. ولذلك كان حنظلة/ناجي الصغير، حافي القدمين مرقع الملابس.
لو كان ناجي يريد أن يغتني فقط، لكانت الجهات التي ناصبته/ وناصبها العداء ستدفع أي شيء لشراء ريشته، بما تجلبه لها من الدعائي –بالإضافة إلى شراء سكوته عنها. وكانت هذه الجهات التي استهدفها ناجي هي كل أحد أو جهة رآهم يلحقون ضرراً بقضية التحرر الفلسطيني. وفي الحقيقة، يصعب أن يجمع المرء هذا العدد والحجم من الأعداء: القيادات الفلسطينية والفصائل الفلسطينية بلا استثناء؛ وكيان الاحتلال؛ والأنظمة العربية الرجعية؛ و"النخبة" المالية والسياسة من النافذين المستفيدين. وقد أعلن ناجي في تقديمه لـ"حنظلة" أنه مواطن عربي، ليس فلسطينيا ولا من أي دولة عربية محددة. ولذلك كانت رسوماته تظاهرات واسعة بحجم مواطني العالم العربي جميعاً، وتهتف باسمهم. 
لم يكن ثمة ناجي "خاص" تقريبا، كما تُظهر قصصه العائلية. كان عاما جدا، وحشدا في جسد فرد. لذلك استهدفوه وضاع دمه بين القبائل الكثيرة.