نتنياهو وتحولات الهوية الإسرائيلية

لا تنفكُّ النخبُ الفكرية والإعلامية في إسرائيل، تثير الجدل حول تحولات الهوية الإسرائيلية في مجتمع مهاجرٍ قادم من طيف واسع من دول متباينة الثقافات والميول والاتجاهات. ورغم مرور أكثر من قرن على الفكرة الصهيونية، فإنّ "بوتقة الانصهار" الصهيونية، كما تقول صحيفة "هآرتس"، لم تُفلح في القضاء، مثلاً، على الفروق الطبقية والثقافية بين "الأشكناز" و"السفارديم". وفي قراءته تلك التحولات، نشر الكاتب ألوف بن مقالاً مطولاً في العدد الأخير من مجلة "فورين أفيرز" الأميركية، لفت فيه إلى أنّ المجتمع الإسرائيلي بدأ منذ فترة بالانقسام على خطوطٍ قَبَليَّة، وأن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ينتعش في ظلّ هذه القَبَليِّة التي تخدم هدف حياته، باستبدال النخبة التقليدية في إسرائيل بنخبة أخرى تتماشى مع فلسفته الأقل اعتدالاً وتسامحاً، بخاصة بعدما تحوّل من محافظٍ يخشى المخاطرة، إلى متطرف يميني يرى أن الديمقراطية مرادفة لحكم الغالبية المنفلت، وينفد صبرُه حيال القيود التي تمثلها المراجعات القضائية أو حماية الأقليات أو التغطيات الإعلامية الناقدة له ولسياساته.اضافة اعلان
وينبّه ألوف بن إلى أنّ جذور هذه التحولات في سياقها الأوسع، وضمنها صعود التعصب القومي والديني وخفوت القيم الليبرالية في إسرائيل، تسبق نتنياهو (المستبدّ) في الحقيقة؛ إذ إن مؤسس الدولة ديفيد بن غوريون، مثلاً، أخفق في تقدير قوة الدين التي اعتقد أنها ستتلاشى عند مواجهتها الحداثة العلمانية، لذلك سمح لليهود الأرثوذكس بالحفاظ على استقلالهم التعليمي في الدولة الجديدة، وبالتالي ضمان خلق أجيال من الناخبين المتدينين في المستقبل (ممن يتنامون بشكل كبير ومقلق). ومع أهمية هذا الاستدراك، فإن الواقع أنّ عهد نتنياهو يتميّز أساساً بتقليص الاعتماد على الغرب ومناكفته، والسعي على المستوى العسكري إلى تطوير منظومات محلية هجومية متطورة لحماية إسرائيل، تتفوق على تلك التي تقدمها أميركا لها، حيث تتبرم النخبة الحاكمة في "إسرائيل نتنياهو" من غلبة الطابع الدفاعي عليها.
وفي مقابلة قديمة مع الكاتب آري شافيت من "هآرتس"، حذّر نتنياهو من محاولات نزع الشرعية عنه "من جانب نخبة النظام القديم"، مشيراً إلى أنّ "المشكلة تكمن في أن الهيكل الفكري للمجتمع الإسرائيلي غير متوازن"، ومتعهداً بتشكيل مؤسسات جديدة أكثر محافظة لإعادة كتابة سرد الرواية الوطنية.
ومنذ 2007، اتكأ نتنياهو على صحيفة "إسرائيل اليوم" (تبيع 275 ألف نسخة يومياً) لتقوم ببعض تلك المهمة، فأصبحت صفحتها الأولى مرآة لتوجهاته وصدى لأفكاره وسياساته. وتمّ في هذه الأثناء، ومع موجة "الربيع العربي"، ضخ مزيد من الدماء في "وعي الهوية المغلق" والأكثر انكفاء على الذات وتركيزاً على صراع البقاء. وقد أصابت هذه الموجة، وفق ألوف بن، الناخبين الإسرائيليين بالذعر، إذ قالوا لأنفسهم: "إذا كان هذا ما يستطيع العرب فعله لبعضهم بعضاً، تخيّل ماذا سيفعلون بنا إذا ما أتحنا لهم الفرصة!". هذا الوعي الهوياتي المريض والمذعور استغله نتنياهو دائماً، وكلنا يتذكر نشْرَه في انتخابات العام الماضي شريطاً مصوراً يدّعي فيه أن "الناخبين العرب يتوجهون إلى صناديق الاقتراع بأعداد كبيرة، وأن المنظمات غير الحكومية اليسارية تستخدم الحافلات لنقلهم". وظهر أنّ هذه المعلومات لم تكن صحيحة، غير أنها ضربتْ على وترِ قلقِ الناخبين اليهود وعنصريتهم ليفوز "الليكود" بالانتخابات.
مؤدى ما تقدّم، أنه إذا صحت التقديرات بأنّ الحكومة الإسرائيلية غير مضطرة للدعوة إلى انتخابات جديدة حتى تشرين الثاني (نوفمبر) 2019 إلا في حال تهاوي الائتلاف الحكومي، فإنّ هذا سيجعل نتنياهو مُعمَّداً، إلى جانب بن غوريون، كصاحب أطول مدة في قيادة إسرائيل.