نتنياهو يجتث الاعتراف المتبادل مع م.ت.ف

وزير الخارجية الإسرائيلي شيمون بيريز لحظة التوقيع على اتفاقيات أوسلو العام 1993 .-( ا ف ب)
وزير الخارجية الإسرائيلي شيمون بيريز لحظة التوقيع على اتفاقيات أوسلو العام 1993 .-( ا ف ب)

هآرتس

حيمي شليف

14/9/2018

المراسل السياسي شمعون شيفر وجه ضربة شديدة لمنافسيه في 27 آب 1993، عندما نشر في صحيفة "يديعوت احرونوت" الخبر حول التقاء شمعون بيرس مع رئيس م.ت.ف قبل التوقيع على اتفاق اوسلو. التفاصيل الأولية عن اللقاء نشرت في تموز 1993 للمرة الأولى، من قبل ييرح طال في صحيفة "هآرتس"، لكنها لم تثر أي صدى جماهيري واسع. اضافة اعلان
في اليوم التالي أضاف شيفر معلومات عن مضمون الاتفاق الآخذ بالتبلور. كأحد متضرريه اليائسين أيضا في حينه في خدمة هآرتس، قمت باستخدام ضغط على مكتب بيرس تضمن تهديدات ودعوات وتنبؤات قاتمة حول مستقبلي الشخصي والمهني بهدف الحصول على تعويض مناسب. بعد مرور بضعة أيام على الملاحقات غير المنقطعة، بما فيها الاعتصام أمام باب وزير الخارجية، اثمر هذا الجهد: كنت أول من نشر أنه إضافة إلى الاتفاقات نفسها وبصورة منفصلة عنها ستتبادل إسرائيل وم.ت.ف فيما بينهما رسائل حول اعتراف متبادل تاريخي.
الصدى العام لخبر الترضية الذي قدمته كان قليلا للأسف، ازاء سيل الأحداث والعاصفة الجماهيرية التي ثارت في الأيام التي سبقت احتفال التوقيع في البيت الابيض في 13 أيلول. عزائي الوحيد جاء من صديقي ومعلمي دافيد لنداو المتوفى، الذي كان في حينه محرر الطبعة الانجليزية للصحيفة، الذي قال إن الخبر بشأن الاعتراف المتبادل أهم من ناحية تاريخية من التوقيع على اتفاق اوسلو أ. في حينه اعتقدت أنه يحاول فقط تشجيعي، لكن بنظرة إلى الوراء لست متأكدا من أنه لم يكن صادق في تشخيصه.
اتفاقات اوسلو رسمت طريقا لحل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، دون أن تشير إلى الهدف النهائي. عنوان الاتفاق الذي وقع على العشب الأخضر في البيت الابيض دل على جوهره: "إعلان المبادئ بشأن الاتفاق الانتقالي لحكم ذاتي". صيغة الاتفاق مكنت الطرفين من التوهم بأنه يمكنهما التوصل إلى اتفاق دائم يبقي في ايديهما أكثر من نصف طموحاتهما. حتى شمعون بيرس، وليس فقط يتسحاق رابين، كان بعيدا في حينه عن التسليم بفكرة اقامة دولة فلسطينية مستقلة.
بيرس واصل التمسك بصيغة مطورة للفكرة التي وضعها هو وموشيه ديان بشأن "تسوية وظيفية" التي اساسها حكم ذاتي شبه مستقل في الضفة. مهندس اوسلو يوسي بيلين اعتقد في حينه أن الغموض غير المتبلور حول النتيجة النهائية للاتفاق، كان خطأ قاتلا. أيضا عنه يمكن القول إنه كان على حق.
من ناحية الصفات العملية، اتفاق اوسلو أ لم يشذ في اساسه عن مخططات إسرائيلية وضعت في السنوات التي سبقته بما فيها اقتراح مناحيم بيغين على انور السادات في نهاية 1977، انشاء حكم ذاتي فلسطيني في المناطق، ومبادرة السلام لحكومة الوحدة الوطنية ليتسحاق شمير في 1989. ومثل اتفاقات اوسلو، خطة الحكم الذاتي ابقت مسألة الحل الدائم للمستقبل البعيد. الذي قدر واضعوها أنه لن يأتي في يوم ما.
العائق الرئيسي لهذه الخطط الذي سحب أيضا على المحادثات الأولى التي اجرتها إسرائيل في أعقاب مؤتمر مدريد مع الوفد الإسرائيلي الفلسطيني كان يكمن في رفض إسرائيل اجراء مفاوضات مع "م.ت.ف تونس" من جهة، وتصميم الممثلين الفلسطينيين على أن يخضعوا انفسهم لتوجيهات ياسر عرفات وزملائه في قيادة م.ت.ف من الجهة الاخرى. النتيجة كانت طريقا مسدودا خدم جيدا نوايا رؤساء اليمين على مر الاجيال.
الاعتراف المتبادل أبقى العلاقة الوثيقة هذه. وحتى شكل خطوة فكرية جريئة أكثر بعدة مرات من اتفاق اوسلو نفسه. يبدو أنه لم يكن هناك منها طريق للرجوع، لقد جسدت ثورة شاملة في مقاربة إسرائيل تجاه المسألة الفلسطينية بالإجمال. الاعتراف المتبادل دلّ على الدفن النهائي، كما يبدو لجهود إسرائيل للفصل بين سكان المناطق وقيادة م.ت.ف.
المشكلة الفلسطينية، كما سميت في إسرائيل، لم تقتصر فقط على مستقبل يهودا والسامرة وغزة وسكانها، بل على الشعب الفلسطيني كله وعلى ملايين لاجئيه. الصدمة التي مثلتها م.ت.ف لم تتركز على "هزيمة احتلال المناطق في حرب الأيام الستة" (النكسة)، بل في "كارثة" الهجرة الفلسطينية في حرب الاستقلال (النكبة). فعليا، الاعتراف عبر عن موافقة إسرائيل على تحريك نقطة البداية لمحور الزمن للمشكلة الفلسطينية من 1967 والعودة إلى 1948 ومواجهة للمرة الأولى جذور النزاع.
الاتجاه العام حدد في بداية 1993 عندما الغت الكنيست المنع القانوني على الاتصالات مع م.ت.ف. جزء كبير من هذا الفضل للتغيير يعود لعيزر وايزمن، الذي اتصالاته غير المصادق عليها مع شخصيات كبيرة في المنظمة قادت إلى اقصائه من الطاقم الوزاري للشؤون العسكرية السياسية الكابينيت، وإلى بداية حل حكومة الوحدة الوطنية الثانية بـ "مناورة نتنة" في العام 1990.
بالنسبة لأشخاص مثل بيرس وبيلين، صانعا اوسلو، الاعتراف المتبادل كان ضرورة لا مناص منها والتي تم تبنيها من قبل رابين نفسه وهو غير راضي. لقد انهت الذريعة التي استخدمها اليمين منذ توليه الحكم في 1977. والذي أدى إلى طريق مسدود مع الفلسطينيين وإلى توسيع مشروع الاستيطان في المناطق.
مع ذلك، الاعتراف المتبادل وفر بعد ذلك أفضليات تكتيكية مهمة. صحيح أن الرأي العام بخصوص الاتصالات مع م.ت.ف بدأ بالليونة في اعقاب نشاط وايزمن، مرورا باعتراف ادارة رونالد ريغان بـ م.ت.ف في نهاية 1988 وانتهاء بالمصافحة التاريخية في البيت الابيض – لكن مسرحية مسيرة النصر التي قام بها ياسر عرفات بزيارته الأولى إلى غزة في بداية تموز 1994، كانت صعبة مع ذلك على معظم الجمهور الإسرائيلي. كثيرون اعتبروا ذلك خطوة أولى لتحقيق حق العودة.
موافقة يتسحاق رابين على الاعتراف بـ م.ت.ف والسماح بعودة رجالها، سهلت على نتنياهو اتهامه بالمسؤولية الشخصية عن ارهاب الانتحاريين، الذي اندلع في اعقاب عملية باروخ غولدشتاين في الحرم الابراهيمي. حقيقة أن معظم العمليات نفذت على ايدي خلايا محلية لحماس والجهاد الاسلامي الذين لم يحتاجوا ولم يخضعوا لتعليمات عرفات، لم تشوش على هذه الفرضية، التي ساهمت بشكل كبير في تأجيج المشاعر التي سبقت قتل رابين وتولي نتنياهو الحكم.
الاعتراف بـ م.ت.ف والحاجة المطلوبة لتوفير عمل لرؤسائها، مهدت الطريق لوضعهم على رأس الاجهزة الأمنية الفلسطينية، التي وضعت تحت إمرة القادمين من تونس مثل توفيق الطيراوي، أمين الهندي، محمد دحلان وجبريل الرجوب. هذا الكادر المستورد سهل على نتنياهو واصدقائه وصف الشرطة الفلسطينية كذراع إرهابي لحركة فتح، يعمل منذ الآن تحت اسم آخر بصلاحيات وبموافقة حكومة رابين، رغم أنه تبين بعد ذلك أنها تعمل أكثر كذراع تنفيذي للجيش الإسرائيلي للحفاظ على الهدوء في المناطق.
نجاح الأجهزة الأمنية الفلسطينية يمكن زعماء اليمين حتى الآن من اقناع الجمهور بأن الوضع الراهن أفضل من أي حل آخر. هي ترسخ الاعتقاد السائد بأنه يمكن أكل الكعكة وابقائها كاملة ومواصلة نظام الاحتلال بدون أن يضطر جنود الجيش الإسرائيلي إلى مواجهة صعوباته ومخاوفه بأنفسهم.
الشرطة الفلسطينية هي من البقايا الأخيرة لاتفاق اوسلو. نتنياهو وحزبه تنازلا منذ زمن عن الموافقة على انسحابات اخرى في يهودا والسامرة، التي فصلت في الاتفاق المرحلي الذي وقع في ايلول 1995، الذي تبناه نتنياهو ظاهريا في اتفاق واي بلانتيشن في 1998، ولا نريد الحديث عن التزامهم بالتوصل إلى الاتفاق الدائم، الذي تحول إلى نكتة. فعليا إسرائيل عادت إلى المبادئ التي توجه خطط الحكم الذاتي لبيغين وشمير والتي اعدت للسكان الفلسطينيين، لكن ليس إلى الاراضي التي يعيشون عليها.
نتنياهو الذي يتنكر منذ زمن لخطاب بار ايلان الذي القاه بشأن الدولتين، يطرح صيغة لينة، بحيث يتم تبنيها بغطاء ما داخل خطة السلام "النهائية" لترامب، التي في اساسها دويلة مخصية، بحيث يواصل الجيش الإسرائيلي السيطرة فيها وعلى حدودها. نفتالي بينيت وبنزاهة اكثر، يقترح الاكتفاء باقامة مناطق مدنية للحكم الذاتي تذكر بالكانتونات التي انشأتها جنوب افريقيا للسود من اجل تخليد الابرتهايد.
ولكن نتنياهو لا يكتفي بإفشال اتفاقات اوسلو، الآن هو يعمل على افراغ الاعتراف بـ م.ت.ف وبدورها كممثلة شرعية للشعب الفلسطيني كله، من مضمونه. رئيس الحكومة يقزم بصورة متواصلة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، ويمتنع بصورة ظاهرة عن البحث عن طرق للوصول إلى قلبه.
هو مستعد للاعتراف فعليا بحكم ذاتي لحماس، بحيث يخرج قطاع غزة من أيدي السلطة الفلسطينية، وبهذا يقضي على تفاخرها، كذراع تنفيذية وحتى وريثة قانونية لـ م.ت.ف، في تمثيل الشعب الفلسطيني. وبمساعدة ترامب النشطة فإن نتنياهو منشغل في الغاء وجود الشتات الفلسطيني واللاجئين. وهي خطوة من شأنها أن تسحب البساط من تحت منطق وجود م.ت.ف منذ البداية.
لذلك، فإن احياء ذكرى الـ 25 سنة على تبادل رسائل الاعتراف والتوقيع على اتفاق اوسلو أ تحول فعليا إلى ذكرى للمؤيدين ويوم عيد للمعارضين – فرصة ممتازة لصب الكآبة على فرحة المعارضين. "كل اتفاقات اوسلو لاغية ومنتهية"، قال نتنياهو في العام 2002، وان لم يكن محقا في حينه، فهو بالتأكيد يعمل منذ ذلك الحين بجد من اجل أن يكون محقا اليوم.
لولا الفائدة التي تجلبها له قوات الشرطة الفلسطينية، فإن نتنياهو كان سيصدر منذ زمن شهادة وفاة رسمية للاتفاقات، والاعتراف، ولكل هذه الضجة التي خلقت وهم مؤقت لاحتمالات سلام الشجعان، كما سماه عرفات. الوهم بدأ يتبدد مع العمليات الارهابية التي بدأت بعد نصف سنة من التوقيع على رسائل الاعتراف والاتفاقات. لقد صفيت نهائيا مع يتسحاق رابين في ميدان ملوك إسرائيل في 4 تشرين الثاني 1995. منذ ذلك الحين تعتبر ميت يمشي، الذي من قتلوه يرفضون حتى دفنه الذي يستحقه.