نحتاج إنسانيتنا!

قادتني الصدفة، قبل أيام، لأن أشاهد مقطع فيديو بُث على مواقع التواصل الاجتماعي، يعكس تغير الطبيعة الإنسانية، من خلال البرود الاجتماعي، والعزلة، وضعف التواصل الذي أصاب معظم الناس بعد اجتياح الهواتف الذكية لعالمنا، وفرضها حياة جديدة.اضافة اعلان
يبدأ المقطع بمشهد لرجل وامرأة في رحلة بين أحضان الطبيعة؛ يسيران جنباً إلى جنب. لكن فيما تحاول المرأة استراق لحظات جميلة برفقته، كان الرجل يعبث بهاتفه طوال الوقت، كأنه يعيش حياة بمفرده لا أحد معه في عالمه الجديد.
أما الصديقات اللواتي اجتمعن معا، في مشهد آخر، لتناول طعام الغداء في أحد المطاعم؛ فقد تحدثن معا لدقائق معدودة، تبادلن خلالها الأخبار السريعة، لكن سرعان ما انخرطت كل واحدة منهن في مساحتها الخاصة القريبة من قلبها، برفقة الصديق الأغلى على الإطلاق؛ "الهاتف الذكي"، حتى غاب عن عقولهن السبب الذي أتى بهن إلى هذا المكان!
مشهد آخر لا يقل حزنا عما سبقه، تجسده طفلة مشاغبة لا يتجاوز عمرها 6 أعوام، لم تعد كما كانت تشتكي من مللها ورغبتها في اللعب، أو حاجتها لرؤية أطفال من سنها، بل هي تجلس على الأرجوحة برفقة صديقها الوفي الذي لم يغادر يديها الصغيرتين، ومكنها من الاستغناء عن رفيقتها التي تجلس بجانبها، لكنها لم تشعر بوجودها أصلا!
ولم تكتمل فرحة شابة وقد خرجت مع أصدقائها ليحتفلوا معا في عيد ميلادها. إذ حينما كانت تمسك الكعكة وعليها شموع بعدد سنوات عمرها، وكلها فرح وبهجة محتفلة مع من تحب، كان البعض منشغلا بتصوير الكعكة، وآخرون يعبثون بهواتفهم، ولم يعطوا أي اهتمام لصاحبة الدعوة ولا مشاركتها فرحتها.
الفيديو لخص باختصار أحوال كثير من الناس الذين فقدوا معنى التواصل الحقيقي، وحتى لغة العيون فيما بينهم.. إذ أصبح صديقهم الحميم -رغم وجود الأصدقاء الحقيقيين الأصيلين- ينسيهم من حولهم، ويعزلهم عن أي شيء آخر! فحواسهم مقيدة داخل جهاز صغير أصم، يتحدثون معه، يبتسمون له وينزعجون من أجله، لينسوا أنهم يجلسون مع بشر حقيقيين، من لحم ودم ومشاعر حقيقية.
كم من عائلات تعيش تحت سقف واحد، لكن المسافات بين أفرادها ببعد قارات. فالجميع لا يملكون الوقت لرفع أعينهم عن الشاشة الصغيرة، لتمضي الساعات وهم على نفس الحال! فالحديث صامت مع جهاز أصم، بألعابه ولغته، ومواقع التواصل الاجتماعي التي توشك أن تغدو أبعد ما يكون عن التواصل!
نحن نتخلى عن أشياء حقيقية؛ عن صور قديمة توثق مشاعر تخرج من القلب إلى القلب، ومن العين إلى العين.. تركنا بمحض إرادتنا ذاكرة كانت تمنحنا حينما نختلي مع أنفسنا، مساحة كبيرة من الدفء والحميمية، وسعادة حقيقية سببها صدق ما لمسناه في يوم ما. لم نكن كما نحن الآن، نستجيب لمتطلبات الحياة السريعة من دون أدنى إحساس!
علاقات جافة، صامتة، باردة، جافة كصحراء قاحلة.. وعزلة تبعدنا عن أنفسنا ومحيطنا.. وإنسانية افتقدناها، وأوهام أصبحت تسحب بذكاء ما يدور في دواخلنا من أفكار على حساب كل معنى حقيقي للمشاعر والعلاقات الطبيعية القائمة على اللقاء وجها لوجه. كل ذلك بسبب انحيازنا لأجهزة صغيرة تتحكم في مجرى حياتنا.
فهل ستدعون أجهزتكم "الصماء" تنقلكم من عالمكم الحقيقي إلى عالم غامض يغير من سلوكياتكم وشخصياتكم، ويأخذكم إلى مكان تغيب عنه الضحكات البريئة والجميلة التي كانت تزين الوجوه، وتعكس عمق المشاعر؟!
نحتاج أن نعود لإنسانيتنا!