نحترف الحياة والمقاومة..!

علاء الدين أبو زينة من متعلقات النكسة في الوعي الفلسطيني والعربي مجموعة التعبيرات الفنية التي تلتها. ومن أبرز ذلك الأعمال الفيروزية- الرحبانية التي تعقبت ثنائيات الأمل والانكسار، واليأس والرجاء. هناك «سنرجع يوماً إلى حيِّناً» و»راجعون»، وهناك «أحترف الحزن والانتظار». تقول الأغنية الأخيرة: «أحترف الحزن والانتظار… أرتقب الآتي ولا يأتي… تبددت زنابق الوقتِ… عشرون عاماً وأنا… احترف الحزن والانتظار/ … وها أنا استوطن الفراغ… شُردت عن أهلي مرتين… سكنتُ في الغياب مرتين… أرضي ببالي وأنا… أحترِفُ الحزنَ والانتظارْ». هذه الأغنية الرائعة تلامس بشكل خاص الحزن الغامر الذي جلبته النكبة الثانية على الفلسطينيين. ونحن نستمع إليها لنحزن على ما كان محزناً حقاً. لكنّ هذه الأغنية تنتمي إلى لحظة تاريخية وجيزة من الخبرة الفلسطينية. في الحقيقة، لم يحترف الفلسطينيون الحزن والانتظار، وإنما جربوهما بلا احتراف كردة فعل مؤقتة على اللطمة الهائلة. وسرعان ما عادوا إلى حرفة النضال والمقاومة، واجتراح أسباب البقاء من العدم. الآن، بعد 74 عاماً من النكبة و55 من النكسة، لم تمُت القضية الفلسطينية. لَم يخرج الفلسطينيون من الوجود. لم ينسَ أبناء الفلسطينيين، في أي مكان في العالم، مَن يكونون وإلى أين ينتمون. لم يعش المستوطنون الوحشيون بأمن في أرض الفلسطينيين ولا لحظة واحدة. وكما تقول كل دقيقة في خبرة هذا الصراع، نحن الواثقون دائماً من حتمية رحيلهم وأنه مسألة وقت، وهم الخائفون دائماً من اقتراب رحيلهم ومراودة فكرة أنه مسألة وقت. قسوة العدو وإجرامه المتصاعد طوال فترة الصراع، تُظهر كم هو خائف وعاجز عن تطبيع نفسه في الوجود. وهذه اللاطبيعية البنيوية في الكيان الاستعماري الذي يعتاش على القتل والنهب ومخالفة النواميس الكونية، تجعله مرشحاً فوق العادة للفناء. إنه مثل القط المحشور في زاوية؛ ينصب شعره ويشهر أنيابه ومخالبة لكي يبدو شرساً ومخيفاً وجارحاً، وهو صغير وهش كما هو. إنه قد يخدش، ولكنه في النهاية لا يقتل. الآن، بعد استخدام كل وسائل الشر، لم يتحقق للعدو الصهيوني الشرط الأساسي لنجاح المشاريع الاستعمارية الاستيطانية: إبادة الشعب الأصلي أو تحييده بالكامل. وبسبب بقاء الشعب الفلسطيني بدأ الخطاب العالمي يتغير لأنه لم يعد بالإمكان تجاهل وجوده الصاخب. أصبح من المقبول وصف الكيان الاستعماري في فلسطين بأنه نظام فصل عنصري. ولم يعد بالإمكان التغطية على جرائمه والحفاظ على أحدية الرواية في الإعلام العالمي. والمتضامنون مع قضية الشعب الفلسطيني في تصاعد بينما يكتشف المخدوعون حقيقة الكيان اللاإنسانية. في الولايات المتحدة، موضع تركيز اللوبي الصهيوني ومثابرته على التأثير في قرارات السياسة الخارجية للقوة العظمى الرئيسية، بدأت الأجيال الجديدة من اليهود أنفسهم تشكك في شرعية ما تدعى «إسرائيل». وفي الخطاب العام، أصبح بالوسع المجاهرة باستنطاق أخلاقية العلاقة بين أميركا والكيان وغاياتها الاستراتيجية. وفي فلسطين والعالم، تكشفت عبثية الخطاب المشبوه الذي فرط في معظم فلسطين بدعوى تحرير الفلسطينيين دون أن يفعل سوى تشويه معنى فلسطين. ما يزال الشهداء يرتقون، لكن في استشهادهم إعلان، ولو أنه مدمى/ للحياة والوجود الفلسطينيين؛ الموتى فقط هم الذين لا يُقتلون ولا يستشهدون. والمقاومون تحت الاحتلال يقولون إنهم ليسوا يائسين ولا مكسورين؛ اليائس لا يقدم على فعلِ مقاومة، حتى لو كان طعن مستعمر بسكين. بسبب هؤلاء لا يسير المستعمرون – وكلهم عسكريون في الخدمة أو الاحتياط- بلا سلاح أو حماية أو دروع جسدية. أكثر من أي وقت مضى، يخاف العدو الآن من الأعلام الفلسطينية التي تذكره بأنه لم يكسب معركة الإلغاء. وأكثر من أي وقت هو الآن مستنفر بعد أن بدا وكأن أدوات وسياسات قمعه جلبت له الاستقرار النهائي. الآن، يعبِّر معظم الفلسطينيين في المنفى عن ثقة متجددة برحيل وحتمية التحرير. سوف تسمع الكهول منهم فقط يحزنون من احتمال ألا يسعفهم الوقت ليكونوا بين العائدين. أكثر من أي وقت مضى، عادت فلسطين من البحر إلى النهر، كما هي، والتي لن يتحرر الفلسطينيون إلا إذا تحررت كما هي، من البحر إلى النهر. لم تكن سوى كذلك لأصحابها برغم المعتدين على تعريفها وماهيتها. سوف يُسجل هؤلاء في التاريخ متخاذلين ومتآمرين على وطنهم ومشاركين في محاولة بتر أطرافه ونزع قلبه. هكذا يقول الفلسطينيون المتحدون في فلسطين التاريخية والشتات، الذين يحترفون الحياة والمقاومة. المقال السابق للكاتب  للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنااضافة اعلان