نحن الأفقر في العمل الخيري عالميا!

في كل رمضان يأخذ التركيز الاجتماعي والإعلامي على "العمل الخيري" مداه، دون ان يترك ذلك آثارا حقيقية تنعكس على حياة الافراد والمجتمعات، وكالعادة تختصر المسألة بشكل أو بآخرعلى هذا الشهر مع موجة من الترويج الإعلاني التي تكاد أن تحصر هذا القطاع  في بعض الأعمال الإغاثية المرتبطة بالمؤن والمواد الغذائية لبعض الفئات الفقيرة، والتي تحتكرها مؤسسات بعينها، ما جعل أحد القطاعات الحيوية الذي يعرفه العالم بـ(القطاع غير الربحي) لدينا مجرد هامش موسمي مصبوغ بصبغة دينية تقليدية.اضافة اعلان
تنطوي كافة الأنشطة التي عادة ما يصفها الخطاب الإعلامي المحلي بالاعمال الخيرية والعمل التطوعي وصولا إلى المسؤولية الاجتماعية لقطاع الأعمال أو غيرها من مسميات تحت مجال القطاع غير الربحي  حسب تصنيف الامم المتحدة، حيث أدخلت العديد من الدول هذا القطاع في حساباتها القومية وتساوي مساهمة هذا القطاع  في الناتج الاجمالي العالمي حسب دراسة لجامعة جون هوبكنز نحو 5,6 % من الناتج الاجمالي العالمي وهي نسبة غير قليلة، وتصل في هولندا 15,9 % وفي كندا 12 % وفي اسرائيل
11 % وجاءت مصر بنسبة نحو 3,2 % بينما جاءت الباكستان في الترتيب الأخير في القطاع غير الربحي والعمل التطوعي.
علينا ان نصحو من وهم ان الدين هو المصدر الأول والأخير للأنشطة الخيرية والأعمال التطوعية والمسؤولية المجتمعية، الدين هو احد مصادر هذا العمل ولكنه ليس جميعها وليس أهمها ايضا. هذا موجود في كل المجتمعات التي تزدهر فيها مكانة الأديان، ولعل هذه المشكلة الموجودة في العالم الاسلامي ومنه الأردن هي التي جعلت الجمعيات الدينية تتولى زمام المبادرة والسيطرة على القطاع غير الربحي تحت شعارات العمل الخيري، الذي يذهب إلى أهداف سياسية صريحة.
ما نزال نعاني من أزمة ثقافية في تعريف الالتزام نحو المجتمع ومكانة الدين في الأخلاق العامة، إن الرغبة التاريخية في إصباغ الاخلاق العامة بالصبغة الدينية، واقتصار قيم الإيثار والتكافل والعمل من أجل الآخرين بمفهوم ديني ضيق بعيدا عن فهم سياق التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمجتمعات قد جعل العالم الاسلامي ومنه بلداننا العربية هي الافقر عالميا في هذه القيم والممارسات، ليس لأن الاسلام لا يعلو بهذه القيم بل لان المسلمين المعاصرين عاجزون عن فهم السياق الحضاري الراهن وممارسته ما يجعل الاطر الفكرية الاولية تحتل المجال العام وتسيطر عليه.
علينا ان نلاحظ كيف ازدهرت الوقفيات في الحضارة العربية الاسلامية في القرنين الرابع والخامس الهجريين في سياق التطور الحضاري الذي ساق بعض التعددية والحريات الفكرية، وبالمناسبة فمؤسس الوقف الاسلامي من اجل التعليم هو الخليفة المأمون الذي انفتح على العلوم والفلسفة وحاربه دعاة الافكار الظلامية في زمنه. في ذلك الزمن قدمت المجتمعات العربية امثلة متقدمة في الإنفاق من اجل النفع العام حتى وصلت الوقفيات الى كل مناحي الحياة في المعاهد العلمية والمدارس والجريات على طلاب العلم وبناء المستشفيات وحتى وصلت الحمامات العامة الراقية الموقوفة للنفع العام الى كل زاوية وخانة في المدن. ولم يكتف من يمنحون اموالهم للنفع العام بتقديم الأموال وهم يتأففون كما يحدث اليوم ، بل ساهم اولئك في تطوير النظم العامة سواء في التعليم او الصحة او الطرق او المباني العامة حينما كانوا يملون شروطهم في وثيقة الوقف كيف يصرف ونوعية الخدمة التي تقدم.
معظم الجمعيات الاسلامية المعاصرة علاوة على أنها حاولت أن تحتكر قطاع العمل غير الربحي، فانها تؤطره لأهداف ايديولوجية وسياسية ضيقة وخطيرة، وتختصره في مهمات تخدم فئة ضئيلة من المجتمع، هذا الموضوع الذي عادة ما نمر عليه سريعا يحتاج الى مراجعة جذرية ونقد جريء، فتلك الممارسات جعلت المجتمعات الأكثر تبجحا في الحديث عن العمل الخيري وعن القيم المرتبطة به هي الأفقر عمليا في هذا المجال في العالم.