نحو جبهة علمانية يشارك فيها المتدينون

تتشكل فرصة كبيرة اليوم لتيار اجتماعي قادر على تحرير الدين والصراعات القائمة في البلاد العربية من بعضهما بعضاً. ويمكن أن يكون هذا التيار ائتلافاً تعددياً من مجموعة من الأفكار السياسية والدينية؛ من المتدينين الذين يشاركون في الحياة السياسية والعامة على أسس وقواعد علمانية بهدف التأثير في العملية السياسية من دون إضرار بها، ومن علمانيين متدينين، يؤمنون أن العلمانية موقف ديني أو هي التطبيق والفهم الأكثر صواباً للدين، ومن علمانيين غير متدينين، لكنهم لا يتخذون موقفاً عدائياً من الدين، ويؤيدون حياد الدولة الإيجابي تجاه الدين، بمعنى الالتزام بحرية التدين مع استقلال الدين والدولة عن بعضهما بعضاً.اضافة اعلان
هناك تفاوت بالطبع في نضج الفكرة ووضوحها لدى التيارات الثلاثة. فالعلمانيون غير المتدينين هم الأكثر وضوحاً وفهماً للعلاقة الممكنة بين الدين والدولة، وإن كانوا يتعرضون لسوء فهم وعداء من الإسلام الشعبي الذي تحول إلى إسلام سياسي أكثر تعصباً من الإسلام السياسي المنظم في جماعات وأحزاب. أما المتدينون العلمانيون، فكانوا التيار الأكثر عرضة للإقصاء وسوء الفهم، واجتمعت عليهم سهام السلطات السياسية وجماعات الإسلام السياسي، وإن كانوا الأقدر والأكثر كفاءة في تقديم رؤية فكرية ودينية واضحة وعملية للخروج بالحالة السياسية والتعليمية من التطرف والجمود الراسخ والمتغلغل في كل أنحاء ومستويات المؤسسات التعليمية والدينية الرسمية وفي الإعلام والدعوة والإفتاء. وأما المتدينون المؤيدون للمشاركة العامة والتأثير فيها بأدواتها وقواعدها، فهم الأكثر غموضاً، وما يزالون في حالة صراع مع الذات وفي اجتهاد فكري مضنٍ لأسلمة الديمقراطية أو تحويلها إلى فكرة إسلامية. وهم وإن كانوا يناقضون أنفسهم وينشئون رؤية ومواقف ليست إسلامية ولا ديمقراطية، إلا أنهم في واقع الحال مقتنعون عملياً بضرورة استقلال الدين والدولة عن بعضهما بعضاً، لكنهم يواجهون أزمتين تربكانهم: مع أنفسهم وضمائرهم التي تؤمن بمطالب تطبيقية دينية للدولة لا تحتملها الديمقراطية بما هي نسبية وعدم يقينية؛ ومع قواعدهم التنظيمية المأسورة لصورة مثالية للتاريخ لا تقبل أنصاف الحلول، لكنها على أي حال تلتزم بعملية سياسية واجتماعية مع الاختلاف معها في الوقت نفسه.
المسألة الإيجابية في التيار الثالث أنه واضح في مطالبه، ويحدد على نحو واقعي الفرق بين ما يريده والواقع القائم؛ ويوضح أيضاً فكرته لتطبيق ما يدعو إليه على أسس ديمقراطية وسلمية، وهو في ذلك شريك ملائم، يمكنه أيضاً أن يؤثر في قطاع واسع من المتدينين، سواء من أعضاء الجماعات المنظمة أو الفئات الاجتماعية الواسعة المؤمنة بالإسلام السياسي. لكن نقطة الضعف الأساسية في هذا التيار أنه وإن كان مؤيداً للديمقراطية، إلا أن إيمانه بها مستمد من دوافع ومبررات دينية، وسوف يظل الدين هو القيمة العليا المرجعية والمنظمة للحياة السياسية، وليس المواطنة وولاية المواطنين على مصائرهم ومواردهم، وهي مسألة خطيرة ولا يجوز غض الطرف عنها، حتى مع الاتفاق في المحصلة مع أصحاب هذا الاتجاه، لأننا سنظل في تنظيم الدولة والمجتمع وفي ممارسة المواطنة والحريات تحت رحمة فتوى دينية.
والحال أن ما نحتاج إليه هو أن نعمل ونفكر معاً بحثاً عن الحكمة والصواب، موقنين بنقص معرفتنا واحتمالات الخطأ والصواب والمصالح والأهواء فيما نفكر فيه ونخطط لأجله، لكننا نواصل حياتنا بما هي كذلك ولأجل أن نعيشها كما نتطلع وقبل أن نموت، وليس لأجل حياة أخرى بعد الموت! وسيكون بطبيعة الحال فرق كبير بين الأولويات والأفكار عندما نعمل لأجل تحسين حياتنا القائمة أو حياتنا بعد الموت، حتى ونحن متفقون على الاحتكام بصدق لصناديق الانتخاب.