نذير واحد وبشرتان للثورة السورية

في زحمة التطورات العاصفة التي تجتاح المنطقة، بما في ذلك عاصفة الحرب العدوانية الأخيرة على غزة، يبدو من الصعوبة بمكان استرجاع المشهد السوري إلى صدارة الاهتمام، بعد التراجع المؤسف الذي مرت به الثورة السورية في غضون الأشهر القليلة الماضية، والارتكاسات التي حدثت لها؛ ليس فقط بفعل بعض التقدم التكتيكي الذي أحرزه جيش النظام وحلفاؤه، وإنما أساساً نتيجة كل تلك الانقسامات السقيمة والصراعات البينية المريرة التي جرت في صفوف هذه الثورة اليتيمة.اضافة اعلان
ومع أن التطورات الإقليمية، والإخفاقات الذاتية، لم تتمكن من دحر ثورة الحرية والكرامة، أو حتى تهميشها، إلا أن المكانة السامقة التي احتلتها هذه الثورة طوال نحو ثلاث سنوات من عمرها، هبطت بها كثيراً على سلم الأولويات العربية والدولية، إلى الحد الذي لم تعد فيه أخبار اجتماعات الائتلاف الوطني تثير الانتباه، وغدت أخبار المعارك والإنجازات الموضعية في ريف حماة، خارج أضواء الإعلام الذي كان تحتل بؤرته مثل هذه الأنباء في السابق.
في غمرة هذه الحالة السورية المثيرة للأسى والأسف، حيث تندر الأخبار الطيبة وتتواضع في فضائها الإيجابيات، يلوح في الأفق السوري المعتم نذير واحد باعث على مزيد من التوجس، ترافقه بشرتان واعدتان بالأمل في تجاوز إخفاقات هذه المرحلة الحرجة، وببث قدر غير قليل من التفاؤل باستعادة زمام المبادرة مجددا، لاسيما أن الثورة السورية، ورغم كل مصاعبها الموضوعية والذاتية، قد شبت عن الطوق، ولم تعد هناك قوة قادرة على إجهاضها، أو حتى احتوائها.
سنبدأ على طريقة حاملي الأخبار الطازجة، بالحديث أولاً عن البشرتين الطيبتين اللتين تخاطبان مستقبل الثورة السورية، وذلك قبل أن نعرّج على النبأ السيئ الذي لا يخصها وحدها؛ مشيرين بداية إلى فوز رجب طيب أردوغان بمنصب الرئاسة، وهو الأمر الذي وفر للثورة السورية في مخاضها العسير هذا، أرضية صلبة أكثر من ذي قبل، ودعما معنويا لا يقدر بثمن، خصوصاً أن تركيا هي القاعدة الخلفية العريضة، والحاضنة السياسية المريحة للثوار. وبالتالي، فإن فوز أردوغان برئاسة الدولة التي ما كان من دون انخراطها الكامل في جوارها الجنوبي أن تكون هناك انتفاضة شعبية (ومن ثم تمرد مسلح)، بات يحقق لهذه الثورة استمرارية كانت ستتعرض للاهتزاز فيما لو فاز غيره.
أما البشرى الثانية والأهم، فهي سقوط حكم نوري المالكي في العراق سقوطاً مدوياً، وبالتالي حرمان نظام الأسد من حليف مجاور، غني وطيّع للأجندات الايرانية، كان حكمه يشكل حلقة وصل متينة بين طهران ودمشق، ومنها إلى ضاحية بيروت الجنوبية. إذ يشكل هذا السقوط أول انكسار في خط صعود النفوذ والهيمنة الإمبراطورية الإيرانية المتناميين منذ نحو ربع قرن مضى، الأمر الذي ينطوي في حد ذاته على مكسب كبير للثورة التي وجدت نفسها مؤخراً تخوض حرباً دفاعية ضد تحالف الأقليات المذهبية.
غير أن نذير الشؤم الذي بات يحدق بالثورة السورية، ويقض مضاجعها أكثر من النظام المتهالك في دمشق، فهو ماثل الآن في صعود نجم تنطيم "الدولة الاسلامية" الذي يواصل مد سيطرته على رقعة من الأرض أوسع مساحة من الأردن وفلسطين ولبنان معاً (من خانقين إلى حلب)، مزوداً بالسطوة الدموية، وبالأسلحة الأميركية المكتسبة من مخازن الجيش العراقي، ناهيك عن الجاذبية التي أخذت تستقطب المزيد من المهمشين والمحبطين، بمن في ذلك قادة كتائب من الجيش الحر، ومتطوعين من كل لون وجنس.
وأحسب أن الثورة السورية مطالبة أن تعيد مراجعة خطابها إزاء كثير من جوانب الموقف الذي آلت إليه مؤخراً؛ إذ لم يعد مقنعاً للكثيرين الكلام عن فقاعة تنظيم الدولة الباغية، وعن كونه صنيعة استخبارية إيرانية/ أسدية، خصوصاً بعد ما جرى في الموصل قبل أكثر من شهرين، وما يحدث في الرقة ودير الزور من اكتساحات هائلة ضد جيش النظام والثوار والعشائر والأكراد، ناهيك عما وقع لجيش المالكي والصحوات والميليشيات الطائفية، وأخيراً ضد البيشمركة، من هجمات منسقة؛ الأمر الذي يعني أن الثورة، وعموم المشرق العربي، باتا الآن أمام متغير قد يطيح بالشرق الأوسط القديم كله، إن لم يتم تدارك الموقف عاجلاً وليس آجلاً.