"نريد حصّتنا من الفساد"!

حين يتحدث الناس، والإعلام، عن الفساد، فإن المقصد يتجه بداهةً للحكومات، ومؤسساتها، ولبيروقراطيتها العميقة.
لكنَّ الفساد كمنظومة، لا يمكن أن يعيش من دون دعم شعبي، ومن دون امتداد أفقي في أوساط الجمهور، وهو في المحصّلة مؤسسة ضخمة لها أذرع شعبية عريضة وقطاع هائل من المنتسبين.اضافة اعلان
كذلك الأمر حين يتحدث الناس، والإعلام، عن الفساد، فإن ما يتبدّى للذهن مباشرة هو الفساد المالي، والإداري، لكنَّه يجري تجاهل الفساد الشعبي المتواري عن الأنظار، والذي يشكّل ظاهرة أكثر عمقاً، ويتسبب باختلالات مجتمعية لا تقل خطراً عن فساد الحكومات!
أن يتولى ناشرٌ ترويج روايات ركيكة وشعر عبيط، فهذا فساد يلحق الضرر بالثقافة والتربية والذائقة، مثله كمثل تاجر ينزع ملصقات “تاريخ الصلاحية” عن المعلبات، ومثل سائق التاكسي الذي يمتنع عن ردّ باقي الأجرة للراكب بحجة أنها “قروش قليلة”!
الذي يسرق “سلك كهرباء” خارجي من عمود بجانب بيته، والذي يطحن الخبز اليابس في عجينة “الفلافل”، والذي يذيب “اللحم المجمَّد” ويبيعه على أنه طازج، والمعلم الذي يتباطأ في شرح المنهاج ليضطر الطلبة الى أخذ دروس خصوصية في مركزه الخاص، والناقد الذي يقنع امرأة أميَّة بأنها شاعرة كبيرة لغاية لديه، كلهم فاسدون ولصوص وينهبون المجتمع.
المذيع الذي يتأتئ باسمه لكنَّه يُعيَّن في التلفزيون على “كوتا الأقارب”، والتاجر الذي خبأ “كراتين الدخان” حين سمع عن النية لرفع سعره، وإمام المسجد الذي لم يزر والدته منذ شهرين ألقى خلالهما خمس خُطب عن صلة الرحم، والمقاول الذي اختصر 300 شوال اسمنت من صبّة البناية، واللاعب الذي افتعل الإصابة ليخرج من المباراة حين رأى فريقه يخسر، و”الكبابجي” الذي يفرم الدهون وسَقْط اللحم للزبائن، كلهم فاسدون بالدرجة نفسها!
النوّاب الذين تماهوا مع سياسات الحكومة، ومع الدفاع المطلق عنها، حتى صار المواطن البسيط يعتقد أن البرلمان مؤسسة حكومية!
هذا النوع من النواب، والناخبون الذين أوصلوهم الى مقاعدهم بـ”جرّة غاز” أو “كيس سكر”، ثم بعد حين صاروا ينتقدونهم ويتعجَّبون من تصرفاتهم،.. كل ذلك جزء من فساد شعبي عام.
الفساد ليس خبرةً حكومية في العالَم، فهو مدرسة شعبية، يتلقى الفاسدون علومهم فيها قبل تقلدهم مناصبهم الرسمية، والفساد تربية، ومن التجنّي ومن الجهل أيضاً أن نعتقد بأن المجتمعات مقسومة الى مسؤولين فاسدين بالمطلق، وإلى شعوب ملائكية ومنزَّهة تماماً!
ليست غاية هذا المقال بالطبع الدفاع عن الحكومات، فهي لها من يدافع عنها، ولا الدفاع عن أباطرة وغيلان الفساد فلهم مؤسسات ضخمة وجيوش من الإعلاميين تدافع عنهم، لكنه من المستفزّ هذا الانتشار الواسع للفساد الشعبي، وكأن أحداً يعمل على “تنمية مؤسسة الفساد”، وتسهيل السبل له. والفاجعة أن هناك من يبرره بالفقر والحاجة!
المجتمعات تمرض، وتصاب بالفساد، وينخرها السوس، فالأمر ليس متعلقاً دائماً بالحكومات، وإنما بالثقافات التي تُشكّل المجتمع وبالتغيرات الكبرى التي تحدث لنا.
الحكومات غالباً، في الواقع وفي السينما، في آسيا وفي افريقيا وفي القطب الجنوبي، في السرّ والعلن، في الفصول كلّها، في الخصب والمحل، في السلم والحرب، يشوبها الفساد، أو متورطة فيه،.. لكن الهلاك كلّ الهلاك أن تفسد المجتمعات، وأن يصير الفساد صفة المحكوم لا الحاكم.
وأسوأ ما يحدث أن يصير “المعارض” ليس معارضاً للفساد من حيث المبدأ، وإنما محتج على حصّته القليلة من “ناتج الفساد”، وأن يصير هاجس الناس: نريد حصّتنا من الغنيمة والفساد!