نصف ساعة فقط!

"عزيزي الطالب، عزيزتي الطالبة:
إن لم يكن خروجكما اليوم إلى "الجامعات" سيؤدي إلى "اكتشاف النظريّة الشاملة في الفيزياء"؛ التي تجمع "الفيزياء الكونيّة" مع "فيزياء ما دون الذرّة"، أو وضع الحلّ النهائيّ للمعضلات الفلسفيّة الكبرى، أو سيقود إلى الإجابة عن جميع "أسئلة النهضّة والتقدّم" و"التحديّات الاقتصاديّة والاجتماعيّة"، أو "تجديد الخطاب الدينيّ" تجديداً يتجاوز جميع "العثرات" وينفتح على كلّ "آفاق المستقبل"، أو سيضع اللمسات الأخيرة على اختراعكم "آلة الزمن"، فإنّني أقترح -مجرّد اقترح- أن تلزموا منازلكم. اضافة اعلان
"مياه... مياه... مياه، من كلّ مكان، من فوقنا ومن تحتنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا. الاقتراح أعلاه لطلبة المدارس والموظّفين أيضاً".
هكذا كتب الصديق الدكتور نارت قاخون، ساخراً، على صفحته الخاصة على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك". وربما هناك وجاهة أخرى جديّة لهذا التعليق الطريف، هو أنّ هذه "الشتوة" - الصدمة، بالفعل تكشف لنا عن مفهوم "آلة الزمن"؛ بين عواصم تتطوّر وتتقدم مع حفاظها على أصالتها، ولا تهترئ مع أول تغيّرات مناخية، وهي معدّة لمواجهة التغيرات المحتملة؛ وعواصم ومدن تدخل في حالة صدمة حضارية مع أي تحدٍّ حقيقي.
وما حدث أمس، فقط في نصف الساعة الأولى من الصباح الباكر، يشرّح، أيضاً، أسئلة النهضة والتقدم والتخلف، ويضعنا أمام معضلات فلسفية حقيقية عن الأسباب التي تجعلنا دوماً معلّقين في أصغر مشكلة تواجهنا!
كما أنّ طلبة الفيزياء يمكن أن يستفيدوا من "شتوة" أمس عندما يتعرّفون على المعادلات الخاطئة في هذا العلم، عند التخطيط والبناء في المدن والعواصم في العالم العربي، ويقارنون ذلك بعواصم العالم المتقدم. وقد يكون ذلك مفيداً أيضا لطلبة علم السياسة والاجتماع والنفس في التعرف على "التحديات الاقتصادية والاجتماعية" التي تواجه بلادنا، أو طلبة الشريعة في إعادة النظر في الخطاب الديني والتأكيد على مفهوم المسؤولية المدنية والأخلاقية والدينية لدى المسؤول والمواطن، ومعنى غياب الأمانة والرقابة والمحاسبة.. إلخ.
خسرنا الحرب أمس في نصف ساعة، وذهب كلام الإنشاء من المسؤولين عن الاستعداد للشتاء والعواصف واحتمالات التغير المناخي أدراج الرياح، وصبّ الناس جام غضبهم على الحكومة وأمانة عمان، ومتعهّدي الشوارع والأنفاق. وربما الطرف الوحيد الذي نجا من الغضب الشعبي هم رجال الأمن، الذين بالفعل دفعوا مع المواطنين ثمناً كبيراً لهذا الفشل المفجع في التخطيط والإعداد، ولغياب أي معنى للتفكير المستقبلي.
لكن لحظة من فضلكم! إذ برغم المرارة الكبيرة، فإن من الظلم أن نحمّل المسؤولية لطرف معين، أو أن نسارع إلى إلقاء المسؤولية على أشخاص ونطالب بإقالتهم، فهذا أسهل شيء يقوم به الجميع. بل المطلوب أن نفكّر جديّاً في صدمة أمس، وما حدث في الشوارع والأنفاق والبنايات، وهو أمر حدث (مع عواصف ثلجية سابقة)، ومن المحتمل أن يتكرر بقوة في الأيام المقبلة، إذ يتجه المناخ نحو الحديّة والتطرف!
دعونا نفقز مؤقتاً عن موضوع الفساد (وهو أمر وارد جداً في عمل المتعهدين والصفقات المشبوهة!) ونضع الأمور في نصابها. فالبنية التحتية في عمّان (الشوارع والأنفاق والصرف الصحي، ونظام البناء المخالف) لم تعد قادرة على الاحتمال أكثر، وهناك ضرورة اليوم للتفكير في مشروع ضخم جداً لتجديدها وإصلاحها، كما هي حال شبكات المياه والكهرباء في المملكة بصورة عامة؛ فإلقاء اللوم على عمال "الأمانة" (بصورة كاملة)، فيه ظلم شديد وتحميل لهم فوق طاقتهم.
الصدمة الحضارية، التي أصابت غالبيتنا أمس، من المفترض أن تقودنا إلى تجاوز عقلية الفزعة والترقيع ورمي المسؤوليات، لحماية عمان وروحها وصورتها في عيوننا وعيون الآخرين، ولتكون أمّا حنوناً حقّاً على أبنائها، فلا تختنق ويختنقون معها عند أول عاصفة جويّة أو تغيّر مناخي!