نفخر بكم يا أجمل ما في الزمان

لم يكن متوقعا، في ظل الانقسام الفلسطيني والعربي، كل هذا التضامن مع أهل غزة. وقد حرص الإسرائيليون ومن تواطأ معهم على تصوير ما يجري بأنها عمليات دفاعية في مواجهة ميليشيات حماس الوحشية. ومثل آلام أي عملية جراحية تزول سريعا وتعود غزة إلى أحضان الشرعية تنعم بـ"عملية السلام" وتنهض سنغافورة العالم العربي. غير أن الصورة الحقيقية الزاهية أتمت نورها ولم تطفئها أفواه المجرمين.

اضافة اعلان

تعاطف الناس مع الضحايا، ولو كانت القلوب حجارة أو أشد قسوة للانت لمنظر الأطفال، وهم يقبرون أحياء تحت الركام. غير أن التعاطف الإنساني ليس وحده ما حرك شوارع العالم، فما لا يقل عنه ويزيد عليه هي مشاعر الفخر والإعجاب بالصمود والبطولة والتحدي. فهم ليسوا ضحايا جائحة فيضان أو كوليرا، بل أبطال كتبوا بدمائهم السطر الأخير من أعمارهم.

عالميا يحتفى بالأبطال، ولذا تجد صور الثائر الأممي جيفارا أكثر انتشارا من صور أجمل الممثلات. وفي الفنون تجد رسوم الحصان الجامح تنافس رسوم الوردة الغناء. وفي تاريخ النضال الفلسطيني تخلدت صور أبطال لا تمحى من الذاكرة تنافس في جمالها جنان الزيتون وشوارع المدن العتيقة. عزالدين القسام  شامخا بعمامته، دلال المغربي تتزين بكلاشنكوف، يحيى عياش متلفعا بكوفيته.

ترسم اليوم صور بطولة في غزة لم تتضح معالمها بعد. وهي ليست فورات غضب أعمى بل مثال على عبقرية المقاومة. فهي ليست مجرد فدائي يتزنر بحزام ناسف. تصنيع الصواريخ المحلية من جسم الصاروخ وزعانفه وحشوه المتفجرات والتسديد عملية علمية في غاية التعقيد. وهذا وحده غير كاف تحتاج فرق الصواريخ إلى ذكاء وقوة قلب وتضحية عندما تنصب منصاتها.

فالطيران الإسرائيلي يرصد كل شبر في غزة وكم من شهيد قضى وهو يعد للإطلاق وكم من شهيد لحقه بعد الإطلاق. لم يكن هذا الصمود لولا القناعة بعدالة القضية وجدوى المقاومة والثقة بقادتها. من لي بتلك العجوز خنساء عصرها التي فقدت فلذتي كبدها وقالت أن سلاحهما موجود وهي ستقاتل اليهود إن دخلوا غزة.

لا معنى للمزايدة الفارغة، فالزهار فقد فلذة كبده وخالد مشعل قتل عام 1998 في شوارع عمان لولا أن الله كتب له عمرا جديدا، وأحمد ياسين والرنتيسي.. قضوا نحبهم، والذين قرروا المواجهة من كافة الفصائل هم وأهلهم يقاتلون. محمد الضيف المسؤول العسكري أو أحمد الجعبري أو.. نصف أعمارهم مطاردة ولا هدف لهم غير الشهادة. منذ متى لم يشاهد أحمد الجعبري أطفاله؟ وهنية لا يقل عقلانية وشجاعة عن تشرشل عندما كان يداوم تحت الأرض في مواجهة النازي. المهم، ليس في قادة المقاومة من يعمل في المشاريع والعطاءات وصفقات الاسمنت داخل فلسطين أو خارجها.

هؤلاء المجاهدون ليسوا مجموعة فاشلين لم يتموا الدراسة الابتدائية، بل أذكياء ناجحون وظفوا قدراتهم لخدمة مشروع المقاومة. لذلك كانت مختبرات الجامعة الإسلامية من أول أهداف العدوان. والجامعة نفسها تحكي قصة نجاح لم ترو بعد.

أبلغني الدكتور أمين محمود، وزير الثقافة الأسبق والخبير التربوي المعروف، أن مختبرات الجامعة الإسلامية في غزة حصلت على الترتيب الأول عربيا في تقييم عالمي كان هو من المشاركين فيه وتفوقت على جامعات دول عريقة مثل مصر ولبنان ودول غنية كالخليج. كما حصل طلابها على الترتيب الأول عالميا في مسابقة أميركية لمشاريع الطلبة. من دون أن ننسى أن اسماعيل هنية كان مساعد رئيس الجامعة. لنا أن نتخيل ماذا يمكن أن يفعل هؤلاء لو أتيح لهم فرصة الحياة كسائر البشر!

في كتاب أبرز مفكري النهضة عبدالرحمن الكواكبي "طبائع الاستبداد" يقول إن أكثر ما يخشاه المستبد أن تصبح الحرية أثمن من الحياة. وما يجري في غزة نهوض حقيقي وليس حربا عبثية. وهذه التضحيات هي التي تذكر العالم أن ثمة بشرا يعيشون في سياج. وأنهم عندما يقصفون عسقلان، كما ذكرنا الصحافي العظيم روبرت فيسك، يقصفون الأرض التي هجرهم المحتلون منها. آن للعالم أن يعرف أن إسماعيل هنية ليس من غزة هو لاجئ يعيش في مخيم مع أنه رئيس وزراء منتخب. آن للمحتل أن يدرك أن الضحية تستطيع تنغيص حياته، ولن يبقى هانئا في مستوطناته والشعب المحتل المهجر شقيا في مخيماته.

نغادر العام الهجري 1429 والعام الميلادي 2008 ولا يتوقف الزمان، وهو لا يحمل الكثير معه، تمحى معظم صوره ولا يبقى منها إلا القليل. الأجمل والأقبح، ولا أجمل من أولئك الفتية الذين قرروا أن الحرية أثمن من الحياة، ولا أقبح من المجرمين الذين قرروا أن يسلبوهم الحياة. ولا أقبح ممن لم يتحل بفضيلة الصمت وآثر هجاء أجمل ما فينا واستكثر على الوردة حمرة خدها!

هل عرف العالم قياديا مثل نزار ريان رفض إخلاء منزله واختار ان يستشهد فيه على الرغم من أن المشروع والمطلوب أن يختفي في مقر بديل.

[email protected]