نفقات الحكومة وسراب ضبطها

ما إن يصل رئيس الوزراء إلى "الدوار الرابع"، حتى يبدأ بمغازلة الشارع بأنه سيضبط الإنفاق وسيضع حدا للهدر. لكن سرعان ما يخبو هذا الغزل إلى لا شيء؛ فالموازنة وهيكلها وحجم الرواتب الحكومية وتورم القطاع العام، كلها تشوهات تسبق الحديث عن الإنفاق الحكومي ومحاولات ضبطه.اضافة اعلان
وعد رئيس الوزراء د. هاني الملقي بوقف الإنفاق الحكومي "غير المبرر"، لاسيما النفقات التي تستفز المواطن؛ وتعهد بأن تبدأ الحكومة بنفسها. وأكد  الملقي قبيل عطلة العيد، أن الحكومة استطاعت تخفيض مبلغ 169 مليون دينار من نفقات الحكومة والوحدات والهيئات المستقلة.
تصريحات الرئيس لن تغير كثيرا في المشهد؛ فرواتب الموظفين العاملين والمتقاعدين تستحوذ على أكثر من نصف الموازنة، وحجم القطاع العام الأردني نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، هو الأعلى في العالم، ويشكل أكثر من 46 %.
التوجه العالمي في السنوات العشر الأخيرة ينطوي على حكومات أصغر وكلف أقل، والعمل على تحميل القطاع الخاص مهام كانت تتحملها الحكومات. إلا أن الحالة في العالم العربي، ومنها الأردن، تذهب إلى حكومات كبيرة، بل ومتورمة، وكلف أكبر تحصد ما يتبقى من إيرادات الخزينة.
بدل هذا العناء والتجريب غير المفيد، أدعو الحكومة إلى تشكيل وفد رسمي لزيارة النرويج، والوقوف على تجربتها الذكية والشفافة في الإنفاق الحكومي؛ وهي الدولة المتخمة بالبترول، ولديها قاعدة صناعية في السلع الغذائية حققت اختراقا في دول آسيوية وأوروبية وأفريقية عديدة.
هناك فيديو أعد للحديث عن تجربة النرويج في هذا المجال، يظهر فيه مكتب وزير الداخلية والعدل -وزارتان في وزارة واحدة- بسيطا وعاديا، وأثاثه أقل من أثاث مكتب كثير من الموظفين في وزاراتنا. كما أن ملابس الوزير بسيطة لا تكلف فيها، ويخرج بعد أن ينهي عمله ليحضر ابنته من مدرستها أو روضتها من دون جلبة. والمذهل في هذه التجربة أن الوزير ينتظر على بوابة الوزارة كي تأتي سيارة حكومية لتقله، في حين ستقل السيارة ذاتها وزير الصحة بعد ساعتين، وهكذا؛ أي لا سيارة مخصصة للوزير.
في التجربة الذكية ذاتها، يظهر وزير الخارجية النرويجي بسيطا. إذ لديه مهمات في شمال النرويج، وكل ما أتيح له لا يعدو 120 يورو يوميا للفندق، وخمسين يورو لوجبات الطعام. وتراه سعيدا وهو يتحدث أثناء افتتاحه شبكة تجارية خارجية، لأنه دفع ثمن القهوة التي يشربها من جيبه. ويقف في طابور الانتظار قبيل الدخول إلى الطائرة، ويقول عن تجربته هذه: الوزير يجب أن يقترب من الناس، ويكون مشابها لهم. والمشكلة تقع عندما يتميز عنهم أو يختلف مع إيقاع حياة مواطنيه!
مسؤولو الغرب يشبهون المواطنين هناك؛ يركبون القطارات و"المترو"، ويقفون بانتظار دورهم على مداخل الطائرات وسواها. لذلك، يبدو الأمر طبيعيا وواقعيا، لا مكان فيه لإنفاق لا لزوم له. أما لدينا، فالحالة معكوسة بالكامل. ولذلك، فإنني أدعو الوفد الحكومي المأمول إرساله إلى تلمس بساطة المسؤول والموظف هناك، ومحاولة نقل التجربة، حتى نتخلص من ترف الإنفاق الذي أوصلنا إلى مديونية خانقة.