"نقد ذاتي" غير مسبوق!

تمثّل الوثيقة التي أفرجت عنها جماعة الإخوان المسلمين في مصر مؤخراً، بعنوان "تقييمات ما قبل الرؤية"، وأعدها فريق من الجماعة، عملاً نقدياً عميقاً، غير مسبوق، ضمن الأطر الرسمية في أروقة الجماعة التي كانت تتحسّس دوماً من النقد، وتحديداً النقد الداخلي، وتمارس حالة من "الإنكار" تجاه أخطائها ومشكلاتها!اضافة اعلان
ربما نذكر جميعاً غداة خروج الإخوان من السلطة، كيف رفض تيار في أوساط الجماعة أي عملية نقد ذاتي لمرحلة الثورة والمرحلة الانتقالية، واعتبروا أنّ الوقت غير مناسب، وساوقهم في ذلك فريق من إخوان الأردن!
لكن الرؤى النقدية، مع انكشاف هشاشة رهانات الجماعة وغياب الخبرة السياسية عنها، بدأت تتوالى بعد ذلك، وخرجت من رحم قيادات مهمة، مثل زعيم حماس خالد مشعل، وقيادات إخوانية أردنية أخذت مساراً سياسياً حزبياً خارج سياق جبهة العمل الإسلامي، مثل سالم الفلاحات ونبيل الكوفحي ورحيل غرايبة، وقبلهم في مصر، عبد المنعم أبو الفتوح، وكانت هنالك انتقادات مبطّنة، وفي الغرف المغلقة من قبل القيادات الإسلامية في المغرب العربي وتونس، كذلك، لمسار الإسلاميين في المشرق، وأداء الإخوان المسلمين السياسي في الحكم، خلال حقبة محمد مرسي، وفي الأردن ودول أخرى!
كان التخوف من "النقد الذاتي" والحديث عن الأخطاء في مصر، من أن يكون تبريراً للانقلاب العسكري، وهي حجة ضعيفة، إذ كان الهدف منه التصالح مع النفس، والاعتراف بالخطأ، وإعادة التفكير في المسار المطلوب مع الجماهير والقوى السياسية الأخرى، التي شعرت بالقلق من سلوك الإخوان بعد الثورة، ومن أجندة "الأخونة"، التي أشارت إليها الوثيقة النقدية الأخيرة.
على أيّ حال، الوثيقة مطروحة للنقاش والحوار، وحملت أفكاراً صريحة وجريئة في مراجعة المسار الإخواني، منذ 2011 إلى اليوم، وإن كانت قد تطرقت إلى ما قبل ذلك من تراكمات عبر مواجهة الجماعة مع الأنظمة الدكتاتورية السابقة، وأثر ذلك على تكلس الفكر السياسي لديهم والعزلة والتقوقع في الإطار التنظيمي، وفقدان الخبرة السياسية العملية في مؤسسات الدولة ومراكز القرار..الخ.
من النقاط المهمة التي تشير إليها الوثيقة، الخلط بين عمل الجماعة والحزب، وبين الدعوي والسياسي، وبين مجالات العمل العام، فيصبح الواعظ سياسياً، وضعف تأهيل الكوادر السياسية في الجماعة، وضعف العمل الحزبي المحترف، وغياب التنظير السياسي الواقعي، وعدم الاهتمام بالتخصصات التي تهتم بها الدولة، والخلط بين دور الجماعة ودور الدولة، وفشل الخطاب الإعلامي للجماعة والحزب..الخ، والفشل في إدراك كنه المرحلة الانتقالية، والارتباك في التعامل مع حيثيات الثورة ومع المؤسسة العسكرية ومع القوى السياسية الأخرى، والوقوع في فخ الأخونة..الخ.
ثمة معالم مهمة في الأوراق النقدية التي قدّمتها الوثيقة، وهي مراجعة غير مسبوقة (في حدود ما أعلم على صعيد الداخل الإخواني)، وإن كانت تكتفي بتوصيف الأخطاء والمشكلات، فإنّها – أي الرؤية- تستبطن نقداً ثورياً، يستدعي – لاحقاً- إعادة النظر في البنية التنظيمية والأيديولوجية، وجرأة أكبر تصل إلى حدود إعادة تعريف الجماعة لنفسها ودورها، وتحرير العمل السياسي بالكلية من سلطتها، وإعادة تعريف موقفها السياسي من المفاهيم الديمقراطية والمدنية، والخروج من حالة التردد وسرية التنظيم والأخونة والمفاهيم القديمة التي حجّرت عمل الجماعة، إلى العمل العام الشبكي المتكامل.
مثل هذه الأفكار وصلت إليها سابقاً قيادات إسلامية أردنية، في مقدمتهم سالم الفلاحات، الذي قال لي (موضحاً أفكار حزبه الجديد): لا يجوز أن نبقى محكومين بأفكار وآراء حسن البنا، ونرفض الاجتهاد والتجديد، فإذا كنا نتحدث عن الاجتهاد والتجديد في الدين، فمن باب أولى أن يكون ذلك في العمل العام!