نقص الكوادر التمريضية: غياب بوصلة التعليم

قبل عقود قليلة استثمر الأردن في التعليم، كان استثماره في مسألة مهمة وهي استشراف المستقبل وتوجيه التعليم الجامعي نحو حاجات المجتمعات من المهن سواء للمجتمع المحلي أو لمجتمعات الدول المجاورة، فكان الأردن خزان خبرات في المجالات المختلفة.اضافة اعلان
في كثير من المفاصل التاريخية شكل المتعلمون الأردنيون الأساس الحقيقي لنهضة مجتمعات مجاورة، فالمعلمون الأردنيون ذهبوا إلى بلدان كثيرة مثل السعودية والكويت والإمارات وعمان والبحرين واليمن وحتى الجزائر والسودان.
من الناحية الأخرى، كانت هناك مؤشرات يستدل بها على نوعية التعليم التي يوجه الأردن طلبته نحوها، فبالاضافة للمعلمين كان هناك توجيه نحو المهن الطبية من أطباء وممرضين وفنيي أشعة ومختبرات وغيرها.
كما قلت، كان ذلك قبل عقود قليلة، لكن خلال العقود الثلاثة الأخيرة فقد التعليم الأردني بوصلته، ولم ينتبه إلى كثير من التخصصات المشبعة التي كانت دراستها مجرد شهادات بكالوريوس في أيدي أصحابها دون أن يكون لها أي تأثير في الحياة العملية أو العلمية.
التخصصات الإنسانية طغت على كثير من دراسات الطلبة، ولم تكن للأسف دراسات عميقة، وظلت مسألة البكالوريوس في التخصصات الإنسانية لدينا مجرد شهادة وامتداد للدراسة الأكاديمية المدرسية، مع غياب شبه كامل للبحث الأكاديمي الرصين والبحث العلمي.
اليوم نواجه في الأردن معضلة النقص الحاد في الممرضين في المستشفيات الحكومية والخاصة، وحاجة هذه المستشفيات إلى تعيين مئات الخريجين الجدد لسد هذا النقص الذي تصل نسبته في بعض مستشفيات وزارة الصحة إلى 50 %!
وسط توقف التعيينات في وزارة الصحة لاعتبارات عديدة من بينها محددات الموازنة، هناك اليوم ما يزيد على ألفي خريج من خريجي التمريض ما يزالون ينتظرون دورهم في تعيينات ديوان الخدمة المدنية منذ سنوات، ما أدى إلى تراجع الإقبال على دراسة هذا التخصص نظرا لارتفاع البطالة بين خريجيه.
هناك أعداد كبيرة أيضا من ممرضينا يتوجهون بعد الحصول على شيء من الخبرة إلى العمل في الخارج بسبب مغريات الرواتب والظروف المهنية مقارنة بالعمل داخل المملكة، وما يزيد تعقيد الأمور أن معظم هؤلاء يغادرون بناء على إجازات دون راتب مع بقائهم على قوائم كوادر الصحة دون إحلال بدلاء عنهم.
في الوقت ذاته، هناك نسبة من الممرضين غير الأردنيين المستقدمين من الخارج الذين يشكلون خسارة إضافية لنا، ومزيدا من الاختلالات في هذه المعادلة غير المنطقية التي سببها غياب البوصلة لدى صناع السياسة في الأردن، وغياب كل تخطيط مستقبلي لما يمكن أن تكون عليه التخصصات المطلوبة في الحاضر والمستقبل، ودراسة جميع الاتجاهات المفضية لتلبية الحاجات ومواجهة التحديات المستقبلية.
في سنوات الخمسينيات ظل هذا الهاجس ملحا لدى صناع السياسة في الأردن، فاقترحوا شكلا للتعليم من خلال «دار المعلمين» التي كانت تعنى بتأهيل متخصصين ليكونوا معلمي صفوف أو متخصصي مواد لتلبية حاجات المجتمع الأردني وحاجات المجتمعات العربية المجاورة.
وفي العام 1962 اهتدى صانعو السياسة لتأسيس جامعة محلية كانت الأولى في البلاد، واعتمدوا فيها التخصصات التي كانت مطلوبة حينها سواء محليا أو عربيا، والتي تم تحديدها استنادا إلى وعي وفهم حقيقي لهذه الحاجات، وإيمان شخصي أيضا بضرورة المواءمة بين الدراسة وحاجات السوق من المهن والتخصصات.
يحضرنا اليوم مثال يمكن أن يشكل أنموذجا سواء لجيل اليوم أو الأمس أو المستقبل، حول الحفر عميقا باتجاه احتياجاتنا العلمية والعملية، وهو ما فعله رئيس الوزراء الأسبق د. عبد السلام المجالي في توجيه الدراسة للإناث نحو تخصصات التمريض المختلفة. حينها بدأ بابنته سوسن، أو الأكاديمية المهمة الدكتورة سوسن فيما بعد، لكي يفتح الباب أمام الأردنيات جميعهن ليكنّ حجر الزاوية في التغيير المجتمعي وفي الإضافة العلمية العملية لنماذج مشرفة فيما بعد.
هكذا تعامل صناع السياسة الأردنيون مع المتغيرات والمتطلبات التي تفرضها الحالة أو الزمن. لكننا اليوم نجد أن صناع السياسة غائبون تماما عما يفترض أن تكون عليه خطوتنا التالية.