نقطة.. أول السطر: فلسطين!

تطرح السلطة الفلسطينية مشروع الاعتراف بالدولة في الأمم المتحدة باعتباره الملجأ الأخير بعد فشل "عملية السلام". وفي أحسن الأحوال، تأمل القيادة الفلسطينية في تحصيل وضع اعتباري قد يتيح بعض وسائل الضغط القانونية على كيان الاحتلال. ومن التجربة الطويلة، لم تستطع الأطر القانونية الدولية، طوال أكثر من ستة عقود، أن تجلب شيئاً للفلسطينيين، ما دام القادرون على تطبيق القرارات الدولية غير راغبين مطلقاً في تطبيقها على ما يدعى "إسرائيل" لمختلف الأسباب.اضافة اعلان
بالنسبة للفلسطينيين، يبدو هذا الفصل من القصة الفلسطينية منزوعاً من سياقاته. وفيه يجري وضع خطوط قوية تحت عبارات معيّنة، وإغراق فصول كثيرة مهمة في الضباب. وقد أصبح "عنوان المرحلة" فيما يبدو هو إنقاذ "السلطة الفلسطينية"، باعتبار أن ذلك يعني إنقاذ فلسطين والقضية. وبقراءة في السياق الأعمّ، رأى كثيرون في عملية أوسلو التي تفتقت عن السلطة الفلسطينية خطأ كبيراً ومميتاً في إدارة الصراع مع العدوّ وداعميه. وخلال كل هذه الفترة الرديئة من أوسلو حتى الآن، ظلت الخطوط توضع تحت عنوان "التفاوض على إنهاء الاحتلال"، في حين أن الذي حصل كان تيسير دوام الاحتلال وجعل الفلسطينيين يدفعون فواتيره، واختزال فلسطين إلى دولة "الدجاج المقلي" التي تتم المطالبة بها.
بالإضافة إلى ذلك، عملت أوسلو على تحييد إطار الحركة الوطنية الفلسطينية الجامع "منظمة التحرير الفلسطينية،" وإتباعها للسلطة الفلسطينية، ما عنى عملياً تحييد كل الفلسطينيين الذين لا يعيشون على أرض الضفة الغربية وغزة، واختزال النضال الفلسطيني إلى خدمة أجندات محلية مرحلية. كما أضاف هذا الواقع أشكالاً جديدة من الانقسام الفلسطيني، فتح/ حماس، والذي اتخذ شكل خلاف أيديولوجي، بينما يتطابق تقريباً في البرنامج: التصارع على "السلطة" التي لا تمتلك حتى سلطة تقرير مصيرها، ناهيك عن مصير الفلسطينيين في الداخل والخارج. والآن، تتحدث الولايات المتحدة وقادة الكيان وأنصارهما عن عملية السلام والمفاوضات مجدداً، لأنهم يعرفون أن هذه العملية تعني بالضبط إطالة عمر الاحتلال كما كان، وتعميق الألم الفلسطيني.
على الرغم من زعم قادة الكيان بأن السلطة الفلسطينية ليست شريك سلام، فإن أسوأ أزمة يواجهها هذا الكيان فعلاً هي أن لا يكون هناك فعلاً "شريك سلام" أو طرف يتحدث إليه المحتلون أمام العالم لإيهامه بأن ثمة جدية في البحث عن السلام. أما الأسوأ من ذلك بالنسبة للاحتلال، فهو وجود شريك سلام حقيقي وقوي، يمثل الفلسطينيين جميعاً من دون استثناء، وينطلق من ثوابت قوية ومبدئية، مدعوماً بقاعدة الشعب الفلسطيني المنخرطة كلها في جسم الحركة الوطنية الفلسطينية.
في ضوء ذلك، وإذا كان ما تفعله القيادة الفلسطينية يقصد إلى الضغط على بعض الأطراف من أجل العودة إلى المفاوضات بشروط محسّنة بعض الشيء، وعلى قاعدة أوسلو المعروفة، فإنه لن يعدو كونه إعادة إنتاج للقصة المُريعة نفسها. وفي المقابل، وعلى الرغم من كُلّ ما يُقال عن أزمة الكيان ومعاناته في أجواء الربيع العربي وصراع القوى الإقليمية الناشئة، يتمسّك قادته ومنظروه بالرواية القديمة، ولا يخجلون من ترويج خطابهم الإقصائي القائم على الأسطورة، في حين نخجل نحن من ذكر الحقائق.
إذا فشل مشروع الدولة في الأمم المتحدة، بل وحتى لو اعترف العالم بدولة فلسطين "الافتراضية" كما يصفها البعض، فإن الفلسطينيين معنيون بإعادة فتح كتاب الرواية الفلسطينية من أوله، وإزالة الخطوط من تحت العناوين الفرعية التي تشتت الانتباه. وربّما أصبح من اللازم أن يغلق الفلسطينيون بابهم ونوافذهم عن الخارج، والاحتجاب عن التأثيرات والتمتع ببعض الخصوصية. ويجب فتح الدفاتر ومراجعة الحكاية لمعرفة "الرأس من القدمين" بعد كلّ هذا الصراع، وبحيث يعيد الفلسطينيون التعرف إلى أنفسهم أولاً.
يجب وضع نقطة في نهاية فصل "أوسلو والسلطة" من الحكاية الفلسطينية، والانتقال إلى أول السطر، والشروع بإعادة تعريف المصطلحات البدئية التي فقدت معانيها وحضورها الأصلي. وينبغي أن توضع في رأس الصفحة العناوين التالية: "فلسطين: ما هي؟ الفلسطينيون: من هُم؟ الغايات: ما هي؟ الوسائل: ما هي؟" من هنا ينبغي البدء.. من أول السطر.