نهاية العلوم السياسية كما عرفناها

تزداد أزمة العلوم الاجتماعية والإنسانية التقليدية يوما بعد آخر. وفي بؤرة هذه الأزمة، تبدو أزمة العلوم السياسية التي فقدت قدرتها، في السنوات الأخيرة، على التنبؤ ورسم السيناريوهات. وهناك نقاش في الدوائر الأكاديمية وفي مراكز التفكير الاستراتيجي هذه الأيام، حول اتساع الفجوة بين ما يطرحه الخبراء وما تأتي به استطلاعات الرأي العام من جهة، وبين الوقائع على الأرض من جهة أخرى، حتى وصل الأمر بالبعض إلى قول إننا نشهد نهاية العلوم السياسية كما عرفناها على مدى أكثر من قرن؛ أي إن هذه العلوم فقدت أدواتها في قراءة الماضي وتفسير الأحداث الجارية وبناء التوقعات، على أسس علمية منتظمة وواضحة.اضافة اعلان
العالم يشهد تصدعا علميا كبيرا في مراكز التفكير المتقدمة في العلوم السياسية والاستراتيجية؛ لماذا لم تدرك تلك المراكز صعود تنظيم مثل "داعش"، أو تتوقع الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، أو تحولات الرئيس التركي أردوغان وسلوك الجمهور التركي بعد محاولة الانقلاب عليه، أو تصويت الأميركيين لترامب، أو عدم تمكن مؤسسات الأمن الأوروبية المتقدمة من اكتشاف أكثر من عملية تفجير إرهابية، أو توقع مآلات التحولات العربية، أو الطريقة التي تحولت بها وسائل الاتصال الجديدة إلى أداة للتزييف والأخبار الكاذبة في أيدي مؤسسات سياسية وجماعات صارخة جديدة لم يتوقعها أحد؟ الحقيقة البسيطة هي أن العالم يشهد حركة تغير سريعة جدا، تزداد وتيرتها كل يوم، تنال التكنولوجيا والأدوات وطرق استهلاك التكنولوجيا وإدارة الموارد، كما تغيرا سريعا في مفهوم القوة والفاعلين السياسيين وفي السلوك السياسي؛ إنها بيئة جديدة، بينما أدوات العلوم السياسية والاستراتيجية لم تتطور ولم تستجب لهذه التحولات.
في الوقت الذي فاقت سرعة التغيرات عالم الأكاديميا التقليدي، خطف السياسيون الجدد والفاعلون الجدد جانبا كبيرا من التأثير على مراكز التفكير، فيما ازدادت عمليا أنماط التفكير التآمري والبحوث القائمة على الأحكام المسبقة والتقديرات المطلوبة. في الولايات المتحدة، ونتيجة الإدراك للفشل المتتالي، أقر مجلس النواب الأميركي، في العام 2015، تشريعا يقضي بتقليص الإنفاق على مؤسسة البحوث الوطنية للعلوم الاجتماعية بنسبة
45 %. ويعود ذلك حسب مؤيدي التشريع إلى "عدم تمكن العلوم الاجتماعية، وعلى رأسها العلوم السياسية، من تحقيق أي اختراقات يستفاد منها تطبيقيا". وربما عمل هذا التشريع على إضافة المزيد من الضعف والتأزيم.
مرحلة اللايقين وعدم القدرة على التوقع وبناء التنبؤات، مصحوبة أيضا بضعف القدرة على إدراك الواقع وتفسير الأحداث، هما أحد الاتجاهات التي تحاول تفسير سلوك الناخبين في الولايات المتحدة الذين صدموا العالم بسلوكهم، وتبدو في الطريقة التي فسرت بها برامج الـ"توك شو" والخبراء الواقع الداخلي في الولايات المتحدة في مقابل حجم معاداتهم لترامب؛ بمعنى تفسير الواقع قبل التنبؤ. إن الطلب المتزايد من قبل وسائل الإعلام على خبراء السياسة والعلوم الاجتماعية وجاذبيتها المتصاعدة، زاد من الثرثرة السياسية والإعلامية باسم الأكاديميا. والخطورة هنا أننا نشهد انتقال هذه الظاهرة من الأفراد الذين يمارسون هذه الثرثرة، إلى المؤسسات ومراكز التفكير.
لا ندري ما هي التحولات التي ستقاد إليها العلوم السياسية في العقدين التاليين. اليوم، هناك جمهور كبير من الخبراء يرفض الاعتراف بهذه الأزمة، ويذهب نحو سلوك دفاعي يبرر به ما يحدث، ولا يمارس النقد الذاتي. لكن المطلوب، وليس المتوقع، هو مسار من الهدم والبناء في العلوم الاجتماعية، حتى تستطيع استيعاب العالم الجديد المعقد. وبالنسبة لنا في العالم العربي، فإنه لا يوجد ما نخسره، إذ نحن لم نبدأ بعد!