نهاية حروب العولمة

لا تعني نتائج الانتخابات الاميركية الأخيرة وحدها الكثير، ولا يجب الانخداع بالتفاؤل المفرط الذي وصل لدى البعض حد وصف نتائج هذه الانتخابات بانقلاب سياسي حاد في إدارة شؤون العالم، بل ان القراءة الواقعية لهذا الحدث المتوقع تراه نتيجة منطقية تعبر عن أزمة النظام الدولي السائد والمتجسدة في عنصر القيادة، بمعنى ان نتائج الانتخابات جاءت مكملة لعناصر الأزمة الراهنة، وهي في الحقيقة  تعبر عن ردة فعل مركز قيادة العالم بالرغبة في البقاء والاستمرار في قيادة النظام العالمي.

اضافة اعلان

الاستراتيجية الاميركية العليا تدرك حجم الأزمة التي تشهدها في قيادة النظام العالمي، وأنها مطالبة اليوم بالمناورة من جديد لإطالة فترة انفرادها التاريخي في هذه القيادة، فقد باتت هذه الوظيفة تتآكل بسرعة بعد ان تجاوزت عمرها الزمني المفترض، حسب الخبرات التاريخية والتقديرات الموضوعية، لكلفة التفرد في إدارة شؤون العالم. ولعل اكبر دليل واقعي على هذه الأزمة هو نهاية حروب العولمة في لحظتها الاميركية، وهي الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة خلال عقد ونصف، مضت باسم الشرعية الأممية تارة أو تحت لواء تحالف عالمي، إلى جانب حشود لم تتوقف من المعارك الأخرى لعولمة قيم سياسية، والتي أخذت تتعمق منذ الانقلاب الأميركي على العولمة التقليدية عشية الدخول في القرن الجديد.

تبدو نهاية حروب العولمة في عجز قيادة النظام العالمي في الدفاع عن مبادئ النظام العالمي التي أعلنها جورج بوش الأب، عقب نهاية حرب الخليج الثانية، ومفادها استمرار هيمنة واشنطن على عناصر القوة الاستراتيجية في العالم، وهذا ما يفسر بعض التحولات التي شهدناها خلال اقل من عقدين والتي دشنت فوضى مفهوم الأمن، على الرغم من ان هذا المفهوم بقي يخضع للتبدل والتحول من دون ظهور مضمون جديد ومختلف يؤسس لرؤية جديدة للعالم. فلقد قيل ان الأمن سوف يتوجه نحو الداخل؛ أي باتجاه رفع مستوى نوعية الحياة وعولمة الرفاة الاجتماعي والدفاع عن النموذج الغربي وقيمه السياسية بعيدا عن الشعارات، إلا ان الوقائع أثبتت طوال سلسلة من الحروب، ان البنية الأمنية لم تتغير لكنها تتبدل، فالهدف التقليدي للحروب التي تقودها عجلات المصانع ما زال هو السائد، أي ان الدفاع عن مصالح المجمع الصناعي العسكري في الغرب ما زال هو الهدف الذي على أساسه تضبط عقارب الساعة الكونية، وعلى هذا  الأساس تدار أزمة الطاقة العالمية، ولهذه الغاية تحولت فكرة الصراع بين الحضارات في لحظتها الأولى من نظرية أكاديمية غامضة إلى سيناريو استراتيجي، وفي لحظتها الثانية إلى صراع داخل الحضارات والثقافات.

بالمناسبة فان وجود احد صقور الحروب الجديدة على رأس اكبر منظمة مالية عالمية "البنك الدولي" وفي سياق نزعة عسكرية جديدة سادت العالم تحت مسميات واحجيات متعددة يأتي مصدقا للنبوءة التي أطلقها الرئيس الأميركي الأسبق ايزنهاور بعد انتهاء ولايته الثانية في بداية الستينيات، وحذر حينها مما يحدث اليوم بشكل أو بأخر، وتبدو أهمية هذا الحديث التاريخي كونه صادر عن قائد عارك حروب عالمية كبرى وصقلته التجارب العسكرية وقاد الولايات المتحدة في واحدة من أحلك مراحل الحرب الباردة، إذ حذر من ان تتحول الولايات المتحدة إلى مجرد قلعة حامية للمجمع الصناعي العسكري الغربي، ونبه إلى ان ثمة تيارات سياسية واقتصادية تحاول ان تعيد صياغة الولايات المتحدة بهذا الاتجاه.

وأقتبس هنا من الخطبة الوداعية لايزنهاور ما نصه: " علينا ان نحاذر من اكتساب المجمع الصناعي العسكري لنفوذ لا مبرر له، إذ يوجد احتمال ظهور كارثة نتيجة لسلطة موضوعة في غير مكانها، وسيظل هذا الاحتمال موجودا ويجب ان لا نسمح أبدا لمثل هذا الائتلاف بتعريض حرياتنا أو العملية الديمقراطية للخطر، عبر مسار التاريخ الطويل الذي لم يكتب بعد، فأميركا يجب ان تعلم ان عالمنا هذا الآخذ في الصغر يجب ان يتفادى التحول إلى مجتمع يسوده الخوف الرهيب والكراهية".

بالفعل، تقترب نبوءة ايزنهاور من التحقق، كيف تتحول نوايا الاهتمام بالبعد الاجتماعي التي طرحت في نهايات التسعينيات في أجواء احتجاجات (سياتل ودافوس) وغيرهما التي احتجت بقوة على هيمنة العولمة الاقتصادية التي تسيطر عليها حفنة من الأغنياء في العالم إلى صراع حول عولمة "عسكرة العالم بالقوة" والقوة المضادة، وشاهدنا كيف تم دمج العمليات الاقتصادية وبرامجها الإصلاحية في التنمية ببرامج الإصلاح السياسي، وصار مشروع الرئيس بوش في نشر الديمقراطية والحرية على طريقته في العالم، ووفق ذهنية رمسفليد وبول ولفوتيز الآلية المفضلة لتغيير الأنظمة بالقوة.

في المحصلة عاش العالم مرحلة الدمج المباشر بين القوة العسكرية والاقتصاد باسم الديمقراطية والحرية على الطريقة الأميركية جاء ذلك في مناخات سادتها أشواق شعبية عارمة في مختلف أنحاء العالم للانفكاك من هيمنة وسيطرة النظم التقليدية.

 

في المقابل بينما تحول العالم كله إلى مخافر خفية على طوال خطوط الإنتاج وعيون مراقبة على أسواق المستهلكين، نشهد غيبة واضحة للأطر الفكرية والنظرية التي تفسر هذه التحولات العميقة في بنى الرأسمالية ووظائفها وعلاقاتها الداخلية والخارجية. إنها مفارقة تاريخية تسيطر على العالم في هذه اللحظة التاريخية الهامة، فعلى الرغم من هيمنة الاقتصاد على الأمن الذي يسيطر على التفاعلات العالمية في ظل حالة استرخاء سياسي في أطراف العالم، لم تظهر بعد فلسفة اقتصادية جديدة أو تجديد في الأطر النظرية التقليدية المفسرة للواقع أو المعنية بالتحديات الكبيرة التي يوجهها الاقتصاد العالمي بغلاف سياسي هش.

الحقبة التي قاربت على الانتهاء بالفعل هي حقبة حروب العولمة وصراعاتها التي حشد من اجلها صراعات العقائد والثقافات وادلجت بتوقيع نهاية التاريخ، وهذا يعني نزع أقنعة الزيف التي أدارت تلك الحروب، أي العودة إلى الصراعات التقليدية؛ العودة إلى التاريخ.

[email protected]