هدية الإرهاب في أحد الشعانين

أحد الشعانين هو الأحد السابق لعيد الفصح، ويتميز بطقوسه الجميلة والبهيجة التي تستذكر دخول السيد المسيح إلى القدس واستقباله بسعف النخيل (الشعانين). وتشارك العائلات، بجميع أفرادها، بهذه الطقوس، ويحمل الأطفال معهم إلى الكنيسة سعف نخيل مزينة تم السهر على تجهيزها في الليلة السابقة، وهو أكثر الأعياد الدينية المسيحية احتفاء بالحياة والفرح. ولعل أقباط مصر هم أكثر المسيحيين تمسكا بالتقاليد العريقة لهذه الاحتفالات الدينية الجميلة، فقرر الإرهابيون تقديم "معايدتهم" التي تحمل الموت الأسود والدم والدمار بتفجيرات في أكبر الكنائس أثناء الصلاة والاحتفالات صبيحة يوم أمس.اضافة اعلان
الرسالة ليست موجهة للأقباط فقط، بل إلى مصر والمنطقة والعالم كما هو حال كل الأعمال الإرهابية التي تستهدف الناس في أي مكان ومن أي جنسية أو دين، وفي المقدمة العرب والمسلمين أنفسهم، وحتى مواطني "دولة داعش"، حيث يمكن أن تعدم عشرات العائلات دفعة واحدة بتهمة عدم الولاء للدولة، أو يؤمر طفل بقتل أبيه أو أمه أو أخيه "المرتد"، لتصل بالبشاعة والرعب إلى أبعد مما يحتمله العقل البشري.
لا ندري إذا كان هذا يعزي الإخوة الأقباط في مصر، ونقصد أنهم ليسو مستهدفين طائفيا بذاتهم، بل هم وكل البشر الأسوياء في وطنهم مصر وفي كل مكان، أهداف محتملة للإرهاب الأسود، وخلال الأسبوع الفائت وقعت تفجيرات دموية في أماكن تجمع مدنية في بغداد وقبلها في باكستان، ولا حاجة لسرد تاريخ العمليات الإرهابية التي لم توفر فئة أو بلدا. وفي مصر، رغم أن الإرهاب لا يوفر أحدا، إنما قد يمثل الأقباط هدفا مغريا لأجندة الإرهابيين، حيث يبدو الموقف مثل قدح شرار على برميل بارود، وقد دأب خطاب التطرف الديني على تسميم الجو مع الأقباط الذين تميزوا تاريخيا بالوطنية المصرية المشهودة لإخماد هذه الروح وإعلاء شأن الانتماء الطائفي وتدمير التعايش وبث الانقسام وتقويض السلم الاجتماعي. وقد جاء الإرهاب أمس بخطته الدموية الشريرة لمهاجمة الأقباط في يوم عيد الفرح هذا لتحويله إلى يوم موت وعويل.
قد لا تكون هذه الحقيقة، حقيقة الإرهاب وأهدافه الشريرة تجاه الجميع، كافية لتعزية الاقباط بالنظر لسوابق متكررة من التوترات والصدامات الطائفية في سياق اجتماعي محلي رأينا فيها الاستقواء على الأقباط بروح التعصب والجهل. وعليه تعود القضية مرة أخرى إلى الجذور التي يتغذى عليها الإرهاب ويستثمر فيها ضمن تنويعات استثماره في كل قضية ممكنة ابتداء بالجهل والبؤس والإحباط والفساد، وانتهاء بالقضية الفلسطينية.
لا يمكن إقناع الأقباط أن خطاب التعصب والعداء والمماحكة الذي تزايد باستمرار غير ذي صلة بالعدوان الأخير. وعلى نطاق أوسع نحن نرى خطابا لا يني يتبرأ من الإرهاب علنا وفي كل مناسبة وحشية وإجرامية لكنه يوسع له بالتنظير الفكري والديني الذي يقوم على التزمت وكراهية الآخر، وخذ مثالا فتاوي تحريم معايدة غير المسلمين في كل مناسبة، فالأمر يبدأ بموقف سلمي بمقاطعة الآخرين ونبذهم وتحريم معايدتهم وينتهي بالإقدام على تفجير انتحاري في احتفالهم بعيدهم.
الجميع الآن يتحدث عن المعركة على مستويات سياسية واجتماعية وثقافية في مواجهة الإرهاب، والقمة العربية أكدت على ذلك، وبالنظر إلى ظاهرة الذئاب المنفردة الذين يبادرون لأعمال إجرامية دون تخطيط وقرار من التنظيم، كما هو حال مجرم ستوكهولم الذي دهس من في طريقه من مشاة أيا كانت أعمارهم أو جنسياتهم، وقبله مجرم لندن، وقبله برلين، كلها توضح أن المعركة هي، بالفعل، سياسية اقتصادية اجتماعية وثقافية لدحر الظاهرة التي لا يمثل التنظيم؛ أكان داعش أو سواه، سوى رأس جبل الجليد فيها.