هدير البحر المتوسط

عودة الروس من جديد الى البحر المتوسط ليست مجرد حدث عابر؛ كما تبدو في تدشين قواعد عسكرية جديدة على شواطئ المتوسط، الى جانب عودة الأسطول الروسي الى المياه الدافئة وسباق صفقات التسلح الأميركية والفرنسية والروسية لدول المنطقة، حيث تعبر هذه التفاعلات الثقيلة عن جوهر تغيرات محتملة في الاستراتيجيات الدولية حول هذا البحر الذي طالما شكل بؤرة الاستقطاب المركزية في إدارة الصراع الدولي، منذ الحضارات القديمة الى اليوم.

اضافة اعلان

لقد حافظت المنطقة على صيغة(الجغرافيا القلقـة) طوال عقود الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، وتحولت إلى صيغة (الجغرافيا المستهدفـة) منذ مطلع عقد التسعينيات، وتجسدت هذه الصيغة بحالة من العزلة الاستراتيجية عن العالم، وتفرد الهيمنة وأجندة الأمر الواقع في ضوء ترتيبات وتداعيات احتلال العراق، وإعادة نقل الصياغة الجديدة للعالم القديم من الخرائط والملفات إلى الأرض. وبينما بقيت السياسات الدولية تتنافس في المشاريع الكبرى كان المتوسط هو جوهر الصراع الحقيقي، الظاهر أحيانا والخفيّ في أحيان أخرى، والذي لم يغب حتى عن مسميات هذه المشاريع. 

يقود هذا التقدير إلى ان الاستراتيجية الأميركية العليا باتت تدرك حجم الأزمة التي تشهدها في قيادة النظام العالمي وأنها مطالبة اليوم بالمناورة من جديد لإطالة فترة انفرادها التاريخي في هذه القيادة، فقد باتت هذه الوظيفة تتآكل بسرعة بعد ان تجاوزت عمرها الزمني المفترض حسب الخبرات التاريخية والتقديرات الموضوعية لكلف التفرد في إدارة شؤون العالم. ولعل اكبر دليل واقعي على هذه الأزمة هو نهاية حروب العولمة في لحظتها الأميركية، كما هو الحال فيما يتعلق بالملف الإيراني الشهير، وهي الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة خلال عقد ونصف مضت باسم الشرعية الأممية تارة أو تحت لواء تحالف عالمي، إلى جانب حشود لم تتوقف من المعارك الأخرى لعولمة قيم سياسية بعينها، والتي أخذت تتعمق منذ الانقلاب الأميركي على العولمة التقليدية عشية الدخول في القرن الجديد.

تبدو نهاية حروب العولمة الأحادية، بالعودة الى الصراع حول البحر المتوسط، الأمر الذي يشير الى عجز قيادة النظام العالمي في الدفاع عن مبادئ هذا النظام التي أعلنها جورج بوش الأب، عقب نهاية حرب الخليج الثانية، ومفادها استمرار هيمنة واشنطن على عناصر القوة الاستراتيجية في العالم. وهذا ما يفسر بعض التحولات التي شهدناها خلال اقل من عقدين، والتي دشنت فوضى مفهوم الأمن، على الرغم من ان هذا المفهوم وتطبيقاته بقي يخضع للتبدل والتحول بدون ظهور مضمون جديد ومختلف يؤسس لرؤية جديدة للعالم.

فلقد قيل ان الأمن سوف يتوجه نحو الداخل؛ أي باتجاه رفع مستوى نوعية الحياة وعولمة الرفاه الاجتماعي والدفاع عن النموذج الغربي وقيمه السياسية بعيدا عن الشعارات، إلا ان الوقائع أثبتت طوال سلسلة من الحروب، ان البنية الأمنية لم تتغير لكنها تتبدل؛ فالهدف التقليدي للحروب التي تقودها عجلات المصانع ما زال هو السائد، أي ان الدفاع عن مصالح المجمع الصناعي العسكري في الغرب ما زال هو الهدف الذي على أساسه تضبط عقارب الساعة الكونية، وعلى هذا الأساس تدار أزمة الطاقة العالمية، ولهذه الغاية تحولت فكرة الصراع بين الحضارات في لحظتها الأولى من نظرية أكاديمية غامضة إلى سيناريو استراتيجي، وفي لحظتها الثانية إلى صراع داخل الحضارات والثقافات، وها هي تعود في الربع الأخير من هذا العقد الى الصراع حول الجغرافيا التقليدية.

على هدير مياه المتوسط وعلى ضجيج الأساطيل إلى ستمخرها قريبا وصفقات الأسلحة التي ستعبر فوقها، يمكن انتظار تحولات كبيرة لن تنال المفاهيم الأمنية وحسب، هناك تساؤلات جدية عن مصير استراتيجية الأمن القومي الأميركية لعام2002 واخرى عن مبدأ بوش، وعن مصير استراتيجيات التعاون والأمن حول المتوسط.

المياه الدافئة في المتوسط حملت عبر التاريخ الى العالم الأفكار الكبرى والعقائد والأديان، كما كانت عصب الاقتصاد العالمي، وشهدت الحركات الكبرى للجيوش، هذا كله لا يزال يحدث اليوم، الإضافة ستكون استبدال ما كان يسمى القرصنة البحرية بالقرصنة السياسية المكشوفة.

[email protected]