هذا ما فعله الرئيس!

برغم أنّ "الأزمة السياسية" الراهنة باتت عابرة للحكومات، وتتجاوز أسماء رؤسائها ووزرائها؛ إلاّ أنّ حكومة فايز الطراونة، تحديداً، تحظى بأهمية استثنائية عند تقييم الأشهر الماضية، ولها بصمتها الخاصة في المشهد السياسي!اضافة اعلان
الميزة البنيوية تتمثل في أفكار الطراونة نفسه؛ فهو محافظ من طراز رفيع. ومنذ اللحظة الأولى، قام باستدارة كاملة عما كانت الحكومات التي سبقته تحاول الوصول إليه من تفاهمات مع قوى المعارضة المختلفة، فعاد بوضوح إلى المقاربة المحافظة والتقليدية، وقطع (بدون أن يرف له جفن) مع كل ما تقدم من أفكار ومشاريع في الإصلاح، فلم يترك المواطنين في حيرة من أمرهم، ووفر عناء التحليل والتنبؤ على الجميع، مؤكّداً على رؤيته لقانون الانتخاب الذي التزم بالمنظور الأمني (بالمناسبة كان الرجل معارضاً للقائمة الوطنية ذاتها، ولزيادة عدد مقاعدها!).
الطراونة نجح بامتياز –أيضاً- في سحبنا مرّة أخرى إلى مرحلة ما قبل الربيع الديمقراطي العربي في قانون المطبوعات والنشر، بما فيه من "فضائل" الحجب والمنع، واستعادة مفاهيم ما قبل ثورة الإعلام الإلكتروني، ولم يلتق بنقيب الصحفيين ولا الإعلاميين للتشاور حول مضمون القانون الجديد؛ فالمسألة ليست مهمة، طالما أن تمريره في مجلس الأمة لا يحتاج إلى أيّ عناء يذكر.
مؤخراً، وفي عهد حكومته، أُرسلت مجموعة من الناشطين إلى المحكمة العسكرية، في تجاوز صارخ للتعديلات الدستورية التي حدّدت صلاحيات محكمة أمن الدولة في ثلاث قضايا أساسية: المخدرات، والإرهاب، وتزييف العملة، إلاّ أنّ عباقرة قانونيين في حكومة الطراونة أفتوا بأنّ هذه التعديلات بحاجة إلى ثلاثة أعوام، مستندين إلى فتوى المجلس العالي لتفسير الدستور.
بالضرورة، لا نسوّغ ولا نقبل أن تتجاوز الشعارات والهتافات الحدّ الأخلاقي والقانوني، لكن في الوقت نفسه لا يجوز أن تكون الرسالة الرسمية تدميرا لمصداقية الدولة نفسها فيما قامت به من خطوات إصلاحية، في التعديلات الدستورية وغيرها.
ليس هذا فحسب، بل قدّم الرجل نموذجاً متميزاً في التعيينات في المواقع العليا، فاستفز الرأي العام بأسره، وتسبب في حالة من الغضب الشديد لدى المواطنين المحتقنين مما يعتقدون أنّه امتيازات لفئة معينة وتوريث للمناصب الرسمية والعليا، فشطب بقرار واحد فقط تأكيدات "مطبخ القرار" المتكررة بأنّنا على أبواب مرحلة جديدة.
لعل أخطر ما جرى خلال تلك المرحلة هي تلك الرسالة التي التقطها المسؤولون والمعنيون داخل الدولة نفسها، وتم استغلالها من أجل تكريس نمط العلاقة السياسية والاقتصادية المختلة؛ ففي الوقت الذي كنا نتحدث عن رفع الأسعار من أجل تخفيف العبء والحد من نفقات الموازنة، تمّ تعيين عشرات الأشخاص في مؤسسة رسمية تعاني من ترهل كبير، بسبب محسوبيات النواب والموالين، فيما تضاعف عدد الموظفين في مؤسسة من مؤسسات الدولة خلال أشهر قليلة من 150 إلى 1045 موظفاً؛ ولم لا يحدث ذلك طالما أنّنا عدنا إلى المعادلة التقليدية بين الدولة والشارع؟!
في النتيجة، المشكلة لم تكن محصورة في العقلية المحافظة في إدارة ملف الإصلاح السياسي، بل تجاوزت ذلك إلى الخلل حتى في ترجمة هذه الرؤية، وتقديمها بصورة منطقية، فبدت الحكومة وكأنّها تحمل ثأراً مع الشارع والحراك والشباب، مغلقة أبواب التواصل وقنوات الاتصال مع القوى المختلفة والمعارضة والإعلام والجميع! أعتقد أنّ قارئاً سيقول لي: لا يجوز أن تضع الأخطاء السابقة كافّة في "عهدة الرئيس"، فهنالك شركاء له في الحكم. هذا صحيح، فالحكم على حكومة الطراونة يتجاوز شخص رئيسها، إنّما هو حكم على مقاربة لها مؤيدون داخل مؤسسات الدولة وخارجها، فيما الدور الرئيس الذي قام به الرجل أنّه واجهة لهذه المقاربة وممثّلاً علنياً لها!

[email protected]