هكذا تحدثت الملكة

تحت تأثير أفضل الانطباعات الذهنية المتكونة لدي عقب مشاهدة مقابلة الملكة رانيا العبدالله مع قناة "العربية"، رغبت في تدوين بعض ما استقر في مخيلتي من إعجاب بحديث الملكة، من دون أن أدري على وجه اليقين ما الذي سأخطه بالضبط عن هذه المقابلة التي امتعتني كثيراً بالمحتوى الثري والشكل البهي معاً، وأسعدتني بما فاضت عنه من أفكار قيّمة حديثة، ورؤية عصرية شفيفة، وفوق ذلك ما عبقت به من حضور رهيف، لم تقلل من سحره الخاص رصانة الحديث لشخصية عامة، ذات مكانة رمزية باذخة، وسعة اطلاع عميق، ومسؤوليات كبيرة وثقيلة.اضافة اعلان
في خضم حيرة الكاتب الباحث عن استهلال مناسب لموضوعه، عثرت على مداخلة قصيرة للروائي الكبير والصديق العتيق جمال ناجي، في صفحته الشخصية على "فيسبوك"، يبدي فيها تقريظاً يوازي ما تكوّن لدي من إعجاب حيال حديث الملكة، الأمر الذي حملني على مهاتفته، والبوح له بما مسّني من إعجاب مماثل بالمقابلة، حيث شد على يدي سلفاً عندما قلت له إنني أود بدوري التعقيب على المقابلة ذاتها.
والحق، أنني قرأت كل ما تيسر من مقالات حول حديث الملكة، سبقني إليها كثير من الزميلات والزملاء في الصحافة الورقية، مثمنين ومطرين على الحديث الذي استغرق نحو ساعتين منفصلتين على أكثر الشاشات مشاهدة في هذه المرحلة، الأمر الذي زاد من مشقة الكتابة، وعمق من الشعور بالحرج لدي، إزاء ما يمكنني إضافته إلى كل هذا الكلام المسهب، وعما إذا كان مقالي سينطوي على شيء جديد ومفيد بالضرورة الموضوعية. ومع ذلك، فقد ألحّت عليّ قوة الانطباعات الأولية، وعمقت من شعوري بضرورة المساهمة في مضمار يتسع بعد لكل ذي قلم وباع.
على أي حال، ومن غير مغالاة في المدح الذي قد يجلب لصاحبه مظنّة الرياء والتملق، ويسيء فهم الدافع الذاتي المجرد من كل مصلحة شخصية، فإنه يمكن القول إنني شاهدت على الشاشة ملكة ترفع الرأس، بجزالة حديث تلفزيوني أحسب أنه الأول من نوعه لزوجة الملك وأم ولي العهد، دارت فيه الأسئلة والإجابات في مدار خلا من التكلّف واللغو والإنشاء، وقدم صورة بانورامية ضافية لشخصية نسوية مركزية، مثيرة للاحترام وباعثة على الاعتزاز، تعرف عما تتحدث من دون استعراض أو مباهاة، تحث على الاعتدال والتسامح، وتفهم روح العصر، وتدعو للاستثمار في طاقة الشباب، من غير أن تقول كلمة زائدة، أو أن تستخدم مصطلحاً ملتبس المعنى على الإطلاق.
لقد بدت الملكة في مقابلتها المطولة هذه، مع الإعلامية المتألقة منتهى الرمحي، أشد بلاغة مما بدت عليه في أي من إطلالاتها السابقة، وأكثر جزالة في المقام والقول مما تجلت عليه في أي مرة من خطاباتها المعدة للإلقاء في المناسبات العامة والمؤتمرات. كما بدت الملكة في عفويتها ودفء كلامها الموزون بميزان الذهب الخالص، واحدة من أبناء شعبها، تشبه بناته ونسائه المثقفات الإيجابيات، ممن نراهنّ في المكتب والشارع والمتجر، وسائر مواقع العمل؛ تتحدث بذات اللسان، تألم لما يألمن، وتأمل ما يأملن بالتمام والكمال، وتسعى إلى ما تسعى إليه الأمهات الطيبات والعاملات الرائدات.
وأحسب أن الملكة رانيا قد كسبت الرهان كله في هذه الإطلالة الحضارية الجميلة، وفازت بالمحبة الغامرة عن جدارة واستحقاق؛ إذ عمقت من قوة حضورها الأخّاذ كشخصية قيادية نادرة في عالم القصور، ووسعت إلى أبعد الحدود من مساحة قربها الحميم مع الناس على نحو أكثر مما كانت عليه الحال من قبل، ولامست برقة بالغة ضفاف المشاعر العامة والنبض الشعبي. وفوق ذلك كله، وضعت يدها الرقيقة على العديد من الجروح والآلام، لاسيما جرح التعليم الذي ترى فيه الملكة بحق، أنه بيت الداء والدواء، ومنبع التطوير والتحديث، والركن الركين في عملية بناء الإنسان والأوطان.

[email protected]